الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }

عطف جملة { وأعدوا } على جملةفإما تثقفنهم في الحرب } الأنفال 57 أو على جملةولا يحسبن الذين كفروا سبقوا } الأنفال 59، فتفيد مفاد الاحتراس عن مُفادها، لأنّ قوله { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا } يُفيد توهيناً لشأن المشركين، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم لئلا يحسب المسلمون أنّ المشركين قد صاروا في مكنتهم، ويلزم من ذلك الاحتِراسِ أنّ الاستعداد لهم هو سبب جعْل اللَّهِ إيّاهم لا يُعجزون اللَّهَ ورسوله، لأنّ الله هيّأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها. والإعداد التهيئة والإحضار، ودخل في { ما استطعتم } كلّ ما يدخل تحت قدرة الناس اتّخاذه من العُدّة. والخطاب لجماعة المسلمين ووُلاَة الأمر منهم، لأنّ ما يراد من الجماعة إنّما يقوم بتنفيذه وُلاَة الأمور الذين هم وكلاء الأمّة على مصالحها. والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها وقد تقدّمت آنفاً عند قولهإن الله قوي شديد العقاب } الأنفال 52 وعند قوله تعالى { فخذها بقوة } وتطلق القوة مجازاً على شدّة تأثير شيء ذي أثر، وتطلق أيضاً على سبب شدّة التأثير، فقوة الجيش شدة وقعه على العدوّ، وقوته أيضاً سلاحه وعتاده، وهو المراد هنا، فهو مجاز مرسل بواسطتين، فاتّخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية، واتّخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوّة في جيوش عصرنا. وبهذا الاعتبار يُفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال " ألاَ إنّ القوة الرمي " قالها ثلاثاً، أي أكمل أفراد القوة آلةُ الرمي، أي في ذلك العصر. وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي. وعطف { رباط الخيل } على { القوة } من عطف الخاصّ على العام، للاهتمام بذلك الخاصّ. و { الرباط } صيغة مفاعلة أُتِيَ بها هنا للمبالغة لتدلّ على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو، أي احتباسها وربطها انتظاراً للغزو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم " من ارتبط فرساً في سبيل الله كان روثُها وبولها حسنات له " الحديث. يقال ربط الفرس إذا شدّه في مكان حفظه، وقد سَمَّوا المكان الذي ترتبط فيه الخيل رباطاً، لأنّهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم، كما وصف ذلك لبيد في قوله
ولقد حمَيت الحَي تحملُ شِكَّتي فُرُطٌ وِشَاحِي إنْ ركبتُ زمامُها   
إلى أن قال
حتّى إذا ألْقَتْ يداً في كافر وأجَنَّ عوراتِ الثغور ظَلامها أسْهلتُ وانتصبت كجِذْع مُنيفة جرداءَ يَحْصَر دونها جُرَّامها   
ثم أُطلق الرباط على مَحرس الثغر البحري، وبه سَمَّوا رِباط دمياط بمصر، ورباط المُنستير بتونس، ورباط سَلا بالمغرب الأقصى. وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالىيا أيها الذين آمنوا اصبِروا وصابروا ورابطوا } في سورة آل عمران 200. وجملة { تُرهبون به عدو الله وعدوكم } إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً، ناشئاً عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمّه، وهو القوة، وإمّا في موضع الحال من ضمير { وأعدّوا }.

السابقالتالي
2 3