الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }

فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَإِلَىٰ ثَمُودَ } أي أرسلنا إلى ثمود { أَخَاهُمْ } أي في النسب. { صَالِحاً }. وقرأ يحيـى بن وثّاب «وَإِلَى ثَمُودٍ» بالتنوين في كل القرآن وكذلك روي عن الحسن. وٱختلف سائر القرّاء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع. وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال النحاس: الذي قال أبو عبيدة ـ رحمه الله ـ من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود لأن ثموداً يقال له حيّ ويقال له قبِيلة، وليس الغالب عليه القبِيلة، بل الأمر على ضدّ ما قال عند سيبويه. والأجود عند سيبويه فيما لم يقُل فيه بنو فلان الصَّرف نحو قريش وثقيف وماأشبههما، وكذلك ثمود، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى. والتأنيث جيد بالغ حسن. وأنشد سيبويه في التأنيث:
غَلبَ المساميحَ الوليدُ سَمَاحةً   وكَفَى قريشَ المعضِلاتِ وسادَهَا
الثانية: قوله تعالى: { قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } تقدّم. { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ } أي ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدّم في «البقرة» و«الأنعام» وهم منه. وقيل: أنشأكم في الأرض. ولا يجوز إدغام الهاء من «غيره» في الهاء من «هو» إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج. { وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي جعلكم عُمّارها وسكّانها. قال مجاهد: ومعنى «اسْتَعْمَرَكُمْ» أعمركم من قوله: «أعْمر فلان فلاناً داره فهي له عُمْرى. وقال قَتَادة: أسكنكم فيها وعلى هذين القولين تكون ٱستفعل بمعنى أفعل مثل ٱستجاب بمعنى أجاب. وقال الضّحاك: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف. ٱبن عباس: أعاشكم فيها. زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار. وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها. الثالثة: قال ٱبن العربيّ قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب قال القاضي أبو بكر: تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان: منها ٱستفعل بمعنى طلب الفعل كقوله: ٱستحملته أي طلبت منه حملاناً وبمعنى ٱعتقد، كقولهم: استسهلت هذا الأمر ٱعتقدته سهلاً، أو وجدته سهلاً، وٱستعظمته أي ٱعتقدته عظيماً ووجدته ومنه استفعلت بمعنى أصبت، كقولهم: ٱستجدته أي أصبته جيداً: ومنها بمعنى فَعل كقوله: قرّ في المكان وٱستقرّ وقالوا وقوله: «يَسْتَهْزِئُونَ» و«يَسْتَسْخِرُونَ» منه فقوله تعالى: «اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» خلقكم لعمارتها، لا على معنى استجدته وٱستسهلته أي أصبته جيداً وسهلاً، وهذا يستحيل في الخالق، فيرجع إلى أنه خلق لأنه الفائدة، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازاً ولا يصح أن يقال: إنه طلبٌ من الله تعالى لعمارتها، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه، أما إنه يصح أن يقال: أنه ٱستدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ ٱستفعل، وهو ٱستدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمراً، وطلب للفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى رغبة.

السابقالتالي
2 3