الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }

{ لَوْلاَ } أي: هلا { يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ } أي: الزهاد منهم والعبّاد { وَٱلأَحْبَارُ } أي العلماء { عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ } أي: الكذب { وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ } أي: الرشوة، المفسدة أمر العالم كله { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } من ترهبهم وتعلمهم لغير دين الله. أو من تركهم نهيهم. وهذا الذم المقول فيهم، أبلغ مما قيل في حق عامتهم. أولاً: لأنه لما عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير بالعمل في قوله:لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [المائدة: 62]، وعبّر عن ترك الإنكار عليهم حيث ذمه بالصناعة في قوله: { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } - كان هذا الذم أشد؛ لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء، وحرفة لازمة، هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم.

وهذا معنى قول الزمخشريّ: كأنهم جُعِلوا آثم من مرتكبي المناكير؛ لأن كل عامل لا يسمى صانعاً، ولا كل عمل يسمى صناعة، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه. وكأن المعنى في ذلك؛ أن مُوَاقِعَ المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها. وأما الذي ينهاه، فلا شهوة معه في فعل غيره. فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالاً من المُوَاقِع. ثم قال الزمخشريّ: ولعمري! إن هذه الآية مما يَقِذُ السامع وينعي على العلماء توانيهم. انتهى.

وفي (الإكليل): في هذه الآية وجوب النهي عن المنكر على العلماء، واختصاص ذلك بهم.

وقال البيضاويّ: فيها تخصيص لعلمائهم على النهي عن ذلك، فإن (لولا) إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ. وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.

روى ابن جرير عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشدّ توبيخاً من هذه الآية. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.

وروى ابن أبي حاتم عن يحيي بن يعمر قال: خطب عليّ بن أبي طالب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا أخذتهم العقوبات. فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم. واعلموا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرّب أجلاً.

وروى الإمام أحمد عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من قومٍ يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعزّ منه وأمنع، ولم يغيّروا، إلا أصابهم الله منه بعذاب ".

ولفظ أبي داود عنه، مرفوعاً: " ما من رجلٍ يكون في قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيّروا عليه فلا يغيّروا إلا أصابهم الله بعذاب قبل أن يموتوا ".