الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }

هنا ينتقل السياق إلى موضوع آخر، فبعد أنْ تحدَّث عن الجنة وأهلها عرض لأمر حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يحدث له حين ينزل عليه الوحي، وقلنا: إن الوحي ينزل بواسطة جبريل عليه السلام ، وهو مَلَكٌ، على محمد صلى الله عليه وسلم وهو بشر. ولقاء جبريل بقانون ملكيته بمحمد صلى الله عليه وسلم بقانون بشريته لا يمكن أن يتم إلاَّ بتقارب هذيْن الجنسين وعملية تغيير لا بُدَّ أنْ تطرأ على أحدهما، إما أَنْ ينزل الملَكُ على صورة بشرية، وإما أنْ يرتفع ببشرية الرسول إلى درجة تقرب من المَلك ليأخذ عنه، وذلك ما كان يحدث لرسول الله حين يأتيه الوحي. وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا التغيير فقال: "... فغطَّني حتى بلغ مني الجهْد... " وكان صلى الله عليه وسلم يتفصَّد جبينه عرقاً لما يحدث في جسمه من تفاعل وعمليات كيماوية، ثم حينما يُسرِّي عنه تذهب هذه الأعراض. وقد أخبر بعض الصحابة، وكان يجلس بجوار رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يضع رُكْبته على رُكْبته، فلما نزل على رسول الله الوحي قال الصحابي: شعرتُ برُكْبة رسول الله وكأنها جبل. وإذا أتاه الوحي وهو على دابة كانت الدابة تئط أي: تنخ من ثِقَل الوحي، وقد قال تعالى:إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [المزمل: 5]. إذن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعب بعد هذا اللقاء ويشقُّ عليه، حتى يذهب إلى السيدة خديجة رضي الله عنها يقول: " زَمِّلوني زَمِّلوني " أو " دَثِّروني دَثِّروني " كأن به حمى مما لاقى من لقاء الملَك ومباشرة الوحي أولاً. ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الوحي يفتر عن رسوله ليرتاح من تعبه ومشقته، فإذا ما ارتاح وذهب عنه التعب بقيتْ له حلاوة ما نزل من الوحي، فيتشوق إليه من جديد، كما يشتاق الإنسان لمكانٍ يحبه دونه الأشواك ومصاعب الطريق، فالحب للشيء يحدث عملية كالتخدير، فلا تشعر في سبيله بالتعب. وقلنا: لما فتر الوحي عن رسول الله شمت فيه الكفار وقالوا: إن رَبَّ محمد قد قلاه يعني: أبغضه وتركه. وهذا القول دليل على غبائهم وحماقتهم، كيف وقد كانوا بالأمس يقولون عنه: ساحر وكذاب؟ ففي البغض يتذكرون أنه له رباً منع عنه الوحي، وحين دعاهم إلى الإيمان بهذا الرب قالوا: من أين جاء بهذا الكلام؟ لذلك، فالحق تبارك وتعالى يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً:أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح: 1-4] إذن: كانت مسألة الوحي شاقة على رسول الله.

السابقالتالي
2