الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ }

ألا: أداة تنبيه لشيء مهم بعدها، والتنبيه يأتي لأن الكلام سفارة بين المتكلم والمخاطب، المتكلم عادة يُعد كلامه، ولديْه أُنْسُّ بما سيقول، لكن المخاطب قد لا يكون خالي الذِّهْن فيفاجئه القول، وربما شغله ذلك عن الكلام، فيضيع منه بعضه. والحق - تبارك وتعالى - يريد ألاَّ يضيع منك حرف واحد من كلامه، فينبهك بكلمة هي في الواقع لا معنى لها في ذاتها، إلا أنها تنبهك وتُذهِب ما عندك من دهشة أو غفلة، فتعي ما يُقال لك، وهذا أسلوب عربي عرفته العرب، وتحدثتْ به قبل نزول القرآن. ويقول الشاعر الجاهلي يخاطب المرأة التي تناوله الكأس:
أَلاَ هُبِّي بصَحْنِكِ فَاصْبِحِينَا   وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدرِينَا
يريد أن ينبهها إلى الكلام المفيد الذي يأتي بعد. وبعد ألا التنبيهية يقول سبحانه: { إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ.. } [النور: 64]. والسماوات والأرض ظرف فيهما كل شيء في الكون العُلْوي والسُّفْلي، فلله ما في السماوات وما في الأرض أي: المظروف فيهما، فما بال الظرف نفسه؟ قالوا: هو أيضاً لله، كما جاء في آية أخرى:للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ.. } [النور: 42] إذن: فالظرف والمظروف مِلْك له سبحانه. وعادةً ما يكون الظرف أقلَّ قيمةً من المظروف فيه، فما بداخل الخزينة مثلاً أثمن منها، وما بداخل الكيس أثمن منه، وكذلك عظمة السماوات والأرض بما فيهما من مخلوقات. لذلك إياك أنّْ تجعل المصحف الشريف ظرفاً لشيء مهم عندك فتحفظه في المصحف لأنه لا شيء أغلى ولا أثمن من كتاب الله، فلا يليق أن تجعله حافظةً لنقودك، أو لأوراقك المهمة لأن المحفوظ عادة أثمن من المحفوظ فيه. وفي الآية: { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ.. } [النور: 64] أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور، فكلُّ ما في السماوات، وكل ما في الأرض مِلْكٌ لله وحده، لا يشاركه فيه أحد، وعلى كثرة المفترين في الألوهية والفرعونية لم يَدَّعِ أحد منهم أن له مُلْكَ شيء منها. حتى إن النمرود الذي جادل أبانا إبراهيم عليه السلام وقال: أنا أُحي وأميت لمَّا قال له إبراهيم:فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ.. } [البقرة: 258] لم يستطع فِعْل شيء وبُهِت وانتهت المسألة. ومُلْكه تعالى لم يقتصر على الخَلْق، فخَلَق الأشياء ثم تركها تؤدي مهمتها وحدها، إنما خلقها وله تعالى قيومية على ما خلق، وتصرّف في كل شيء، فلا تظن الكون من حولك يخدُمك آلياً، إنما هو خاضع لإرادة الله وتصرّفه سبحانه. فالماء الذي ينساب لك من الأمطار والأنهار قد يُمنع عنك ويصيب أرضك الجفاف، أو يزيد عن حَدِّه، فيصبح سيولاً تغرق وتدمر، إذن: المسألة ليست رتابة خَلْق، وليست المخلوقات آلاتٍ ميكانيكية، إنما لله المْلك والقيومية والتصرُّف في كل ما خلق.

السابقالتالي
2 3