الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ }

وقع التّكذيب من جميع قومه من قادتهم، ودهمائهم، عدا بعضَ أهل بيته ومن آمَن به عقب سماع قول نوح، فعُطف على كلامه بالفاء أي صدر منهم قول يقتضي تكذيب دعوى أنّه رسول من ربّ العالمين يبلِّغ وينصَح ويعلَم ما لا يعلمون، فصار تكذيباً أعم من التّكذيب الأوّل، فهو بالنّسبة للملأ يَؤول إلى معنى الاستمرار على التّكذيب، وبالنّسبة للعامة تكذيب أنُف، بعد سماع قول قَادتهم وانتهاء المجادلة بينهم وبين نوح، فليس الفعل مستعملاً في الاستِمرار كما في قوله تعالىيا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله } النساء 136 إذ لا داعي إليه هنا، وضمير الجمع عائد إلى القوم، والفاء في قوله { فأنجيناه } للتّعقيب، وهو تعقيب عُرفي لأنّ التّكذيب حصل بعده الوَحْيُ إلى نوح بأنّه لن يؤمن من قومه إلاّ مَن قد آمن، ولا يُرجى زيادة مؤمن آخر، وأمرُه بأن يدخل الفلك ويحملَ معه مَن آمن إلى آخر ما قصّه الله في سورة هود. وقدم الإخبار بالإنجاء على الإخبار بالإغراق، مع أنّ مقتضى مقام العبرة تقديم الإخبار بإغراق المنكرين، فقدم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلاً لمسرة السّامعين من المؤمنين بأنّ عادة الله إذا أهلك المشركين أن ينجي الرّسول والمؤمنين، فذلك التّقديم يفيد التّعريض بالنّذارة، وإلاّ فإنّ الإغراق وقع قبل الإنجاء، إذ لا يظهر تحقّق إنجاء نوح ومن معه إلاّ بعد حصول العذاب لمن لم يؤمنوا به، فالمعقّب به التّكذيب ابتداءً هو الإغراق، والإنجاء واقع بعده، وليتأتى هذا التّقديم عطف فعل الإنجاء بالواو المفيدة لمطلق الجمع، دون الفاء. وقوله { في الفلك } متعلّق بمعنى قوله { معه } لأنّ تقديره استقرّوا معه في الفلك، وبهذا التّعليق عُلم أنّ الله أمره أن يحمل في الفلك معشراً، وأنّهم كانوا مصدّقين له، فكان هذا التّعليق إيجازاً بديعاً. والفُلك تقدّم في قوله تعالىإن في خلق السماوات والأرض } في سورة البقرة 164. { والذين معه } هم الذين آمنوا به، وسنذكر تعيينهم عند الكلام على قصّته في سورة هود. والإتيان بالموصول في قوله { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } دون أن يقال وأغرقنا سائرهم، أو بقيتهم، لما تؤذن به الصّلة من وجه تعليل الخبر في قوله { وأغرقنا } أي أغرقناهم لأجل تكذيبهم. وجملة { إنهم كانوا قوماً عمين } تتنزل منزلة العلّة لجملة { أغرقنا } كما دلّ عليه حرف إن لأنّ حرف إن هنا لا يقصد به ردّ الشكّ والتَّرَدّد، إذ لا شكّ فيه، وإنّما المقصود من الحرف الدّلالة على الاهتمام بالخبر، ومن شأن إن إذا جاءت للاهتمام أن تقوم مقام فَاء التّفريع، وتفيدَ التّعليل وربط الجملة بالتي قبلها. ففصل هذه الجملة كَلاَ فَصْل. و { عَمِين } جمع عَممٍ جمع سلامة بواو ونون. وهو صفة على وزن فَعِل مثل أشِر، مشتق من العمَى، وأصله فقدان البصر، ويطلق مجازاً على فقدان الرأي النّافع، ويقال عَمَى القَلْببِ، وقد غلب في الكلام تخصيص الموصوف بالمعنى المجازي بالصّفة المشبَّهة لدلالتها على ثبوت الصّفة، وتمكّنها بأن تكون سجية وإنّما يصدّق ذلك في فقد الرّأي، لأنّ المرء يخلق عليه غالباً، بخلاف فقد البصر، ولذلك قال تعالى هنا { عَمِين } ولم يقل عُمْياً كما قال في الآية الأخرى

السابقالتالي
2