الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

{ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ }.أتبع إنكار انصرافهم عن توحيد الله بعد ما ظهر على ثبوته من الأدلة، بأن أُعلموا بأن كفرهم إن أصرّوا عليه لا يضر الله وإنما يضر أنفسهم. وهذا شروع في الإِنذار والتهديد للكافرين ومقابلتِه بالترغيب والبشارة للمؤمنين فالجملة مستأنفة واقعة موقع النتيجة لما سبق من إثبات توحيد الله بالإِلٰهية.فجملة { إن تَكْفُرُوا } مبينة لإِنكار انصرافهم عن التوحيد، أي إن كفرتم بعد هذا الزمن فاعلموا أن الله غنيّ عنكم. ومعناه غنيّ عن إقراركم له بالوحدانية، أي غير مفتقر له. وهذا كناية عن كون طلب التوحيد منهم لنفعهم ودفع الضر عنهم لا لنفع الله، وتذكيرهم بهذا ليُقبلوا على النظر من أدلة التوحيد. والخبر مستعمل كناية في تنبيه المخاطب على الخطأ من فعله.وقوله { ولاَ يَرْضىٰ لِعِبَادِهِ الكُفْرَ } اعتراض بين الشرطين لقصد الاحتراس من أن يتوهم السامعون أن الله لا يكترث بكفرهم ولا يعبأ به فيتوهموا أنه والشكرَ سواء عنده، ليتأكد بذلك معنى استعمال الخبر في تنبيه المخاطب على الخطأ. وبهذا تعيّن أن يكون المراد من قوله { لِعِبَادِهِ } العباد الذين وجّه الخطاب إليهم في قوله { إن تكفروا فإنَّ الله غنيٌّ عنكم } ، وذلك جريٌ على أصل استعمال اللغة لفظ العباد، كقولهويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } الفرقان 17. الآية وإن كان الغالب في القرآن في لفظ العباد المضاف إلى اسم الله تعالى أو ضميره أن يطلق على خصوص المؤمنين والمقرَّبين، وقرينة السياق ظاهرة هنا ظهوراً دون ظهورها في قولهأأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } الفرقان 17.والرضى حقيقته حالة نفسانية تعقُب حصولَ ملائم مع ابتهاج به، وهو على التحقيق فيه معنى ليس في معنى الإِرادة لما فيه من الاستحسان والابتهاج ويعبر عنه بترك الاعتراض، ولهذا يقابل الرضى بالسخط، وتقابل الإِرادة بالإِكراه، والرضى آئل إلى معنى المحبة. والرضى يترتب عليه نفاسة المرضيّ عند الراضي وتفضيله واختياره، فإذا أُسند الرضى إلى الله تعالى تعيّن أن يكون المقصود لازم معناه الحقيقي لأن الله منزّه عن الانفعالات، كشأن إسناد الأفعال والصفات الدالة في اللغة على الانفعالات مثل الرحمن والرؤوف، وإسناد الغضب والفرح والمحبة، فيؤوَّل الرضى بلازمه من الكرامة والعناية والإِثابة إن عدي إلى الناس، ومن النفاسة والفضل إن عدّي إلى أسماء المعاني. وقد فسره صاحب «الكشاف» بالاختيار في قوله تعالىورضيت لكم الإسلام ديناً } في سورة العقود 3.وفعل الرضى يُعدّى في الغالب بحرف عن، فتدخل على اسم عَين لكن باعتبار معنى فيها هو موجب الرضى. وقد يعدّى بالباء فيدخل غالباً على اسم معنى نحو رضيت بحكم فلان، ويدخل على اسم ذات باعتبار معنى يدل عليه تمييز بعده نحو رضيت بالله ربًّا، أو نحوه مثل

السابقالتالي
2 3 4