الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }

عطف على جملةأفلم ينظروا } ق 6 عطف الخبر على الاستفهام الإنكاري وهو في معنى الإخبار. والتقدير ومددنا الأرض. ولما كانت أحوال الأرض نصب أعين الناس وهي أقرب إليهم من أحوال السماء لأنها تلوح للأنظار دون تكلف لم يؤت في لفت أنظارهم إلى دلالتها باستفهام إنكاريّ تنزيلاً لهم منزلة من نظر في أحوال الأرض فلم يكونوا بحاجة إلى إعادة الأخبار بأحوال الأرض تذكيراً لهم. وانتصب { الأرض } بــ { مددناها } على طريقة الاشتغال. والمدّ البسط، أي بسطنا الأرض فلم تكن مجموعَ نُتُوءات إذ لو كانت كذلك لكان المشي عليها مُرهقاً. والمراد بسط سَطح الأرض وليس المراد وصف حجم الأرض لأن ذلك لا تدركه المشاهدة ولم ينظر فيه المخاطبون نظر التأمل فيستدل عليهم بما لا يعلمونه فلا يعتبر في سياق الاستدلال على القدرة على خلق الأمور العظيمة، ولا في سياق الامتنان بما في ذلك الدليل من نعمة فلا علاقة لهذه الآية بقضية كروية الأرض. والإبقاء تمثيل لتكوين أجسام بارزةٍ على الأرض متباعد بَعْضها عن بعض لأنّ حقيقة الإلقاء رمي شيء من اليد إلى الأرض، وهذا استدلال بخلقة الجبال كقولهوإلى الجبال كيف نُصِبَت } الغاشية 19 و { فيها } ظرف مستقر وصف لــ { رواسي } قدم على موصوفه فصار حالاً، ويجوز أن يكون ظرفاً لغواً متعلّقاً بــ { ألقينا }. ورواسي جمع راسٍ على غير قياس مثل فوارس وعواذل. والرسُوُّ الثبات والقرار. وفائدة هذا الوصف زيادة التنبيه إلى بديع خلق الله إذ جعل الجبال متداخلة مع الأرض ولم تكن موضوعة عليها وضعاً كما توضع الخيمة لأنها لو كانت كذلك لتزلزلت وسقطت وأهلكت ما حواليها. وقد قال في سورة الأنبياء 31وجعلنا في الأرض رواسيَ أن تميد بهم } أي دَفْعَ أن تميد هي، أي الجبال بكم، أي ملصقة بكم في مَيْدها. وهنالك وجه آخر مضى في سورة الأنبياء. والزوج النوع من الحيوان والثمار والنبات، وتقدم في قوله تعالىفأخرجنا به أزواجاً من نبات شَتَّى } في سورة طه 53. والمعنى وأنبتنا في الأرض أصناف النبات وأنواعه. وقوله { من كل زوج } يظهر أن حرف { مِن } فيه مزيد للتوكيد. وزيادة { مِن } في غير النفي نادرة، أي أقل من زيادتها في النفي، ولكن زيادتها في الإثبات واردة في الكلام الفصيح، فأجاز القياس عليه نحاة الكوفة والأخفشُ وأبو علي الفارسي وابن جنيّ، ومنه قوله تعالىوينزّل من السماء من جبالٍ فيها من بردَ } النور 43 إن المعنى ينزل من السماء جبالاً فيها بَرَد، وقد تقدم ذلك في قوله تعالىومن النخل من طلعها } في سورة الأنعام 99. فالمقصود من التوكيد بحرف من } تنزيلهم منزلة من ينكر أن الله أنبت ما على الأرض من أنواع حين ادعوا استحاله إخراج الناس من الأرض، ولذلك جيء بالتوكيد في هذه الآية لأن الكلام فيها على المشركين ولم يؤت بالتوكيد في آية سورة طه.

السابقالتالي
2