الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }

كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مماثلة دعوة عيسى عليه السّلام وكان جواب الذين دعاهم إلى الإِسلام من أهل الكتابين والمشركين مماثلاً لجواب الذين دعاهم عليه السّلام. فلما أدمج في حكاية دعوة عيسى بشارته برسول يأتي من بعده ناسب أن ينقل الكلام إلى ما قابل به قوم الرسول الموعود دعوة رسولهم فلذلك ذكر في دعوة هذا الرسول دين الإِسلام فوصفوا بأنهم أظلم الناس تشنيعاً لحالهم. فالمراد من هذا الاستفهام هم الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك عطف هذا الكلام بالوَاو ودون الفاء لأنه ليس مفرعاً على دعوة عيسى عليه السلام. وقد شمل هذا التشنيع جميع الذين كذبوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين والمشركين. والمقصود الأول هم أهل الكتاب، وسيأتي عند قوله تعالىيريدون ليطفئوا نور الله } الصف 8 إلى قولهولو كره المشركون } الصف 9 فهما فريقان. والاستفهام بـ { من أظلم } إنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء فالمكذبون مِن قبلهم، إما أن يكونوا أظلم منهم وإمّا أن يساووهم على كل حال، فالكلام مبالغة. وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم ظلموا الرسول صلى الله عليه وسلم بنسْبِته إلى ما ليس فيه إذ قالوا هو ساحر، وظلموا أنفسهم إذ لم يتوخوا لها النجاة، فيعرضوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم على النظر الصحيح حتى يعلموا صدقه، وظلموا ربهم إذ نسبوا ما جاءهم من هديه وحجج رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما ليس منه فسموا الآيات والحجج سحراً، وظلموا الناس بحملهم على التكذيب وظلموهم بإخفاء الأخبار التي جاءت في التوراة والإِنجيل مُثبتة صدق رسول الإِسلام صلى الله عليه وسلم وكمل لهم هذا الظلم بقوله تعالى { والله لا يهدي القوم الظالمين } ، فيعلم أنه ظلم مستمر. وقد كان لجملة الحال { وهو يدعى إلى الإسلام } موقع متين هنا، أي فعلوا ذلك في حين أن الرسول يدعوهم إلى ما فيه خيرهم فعَاضوا الشكر بالكفر. وإنما جُعل افتراؤهم الكذب على الله لأنهم كذبوا رسولاً يخبرهم أنه مرسل من الله فكانت حُرمة هذه النسبة تقتضي أن يُقبلوا على التأمل والتدبر فيما دعاهم إليه ليصلوا إلى التصديق، فلما بادروها بالإِعراض وانتحلوا للداعي صفات النقص كانوا قد نسبوا ذلك إلى الله دون توقير. فأما أهل الكتاب فجحدوا الصفات الموصوفة في كتابهم كما قال تعالى فيهمومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } في سورة البقرة 140. وذلك افتراء. وأما المشركون فإنهم افتروا على الله إذ قالواما أنزل الله على بشر من شيء } الأنعام 91. واسم { الإسلام } عَلم للدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو جامع لما فيه خير الدنيا والآخرة فكان ذكر هذا الاسم في الجملة الحالية زيادة في تشنيع حال الذين أعرضوا عنه، أي وهو يُدعى إلى ما فيه خيره وبذلك حق عليه وصف { أظلم }.

السابقالتالي
2