الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

{ لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ } أي: حملها الإنسان ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة. على أن اللام للعاقبة. فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا له من الحمل، لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها، أبرز في معرض الغرض - أي: كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية. وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى: { وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي: كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده. أي: يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة. وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات. قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة. والالتفات إلى الاسم الجليل أولاً، لتهويل الخطب وتربية المهابة. والإظهارُ في موضع الإضمار ثانيا، لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي: مبالغا في المغفرة والرحمة. حيث تاب عليهم وغفر لهم فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم. انتهى ملخصا مما حرره أبو السعود. وقد آثرت نقله بحروفه لتجويده الكلام، وإجادته في المقام. وهكذا عادتنا في كل مجوّد، أن ننقله ولا نتصرف فيه.

بقي في الآية لطائف نشير إليها

الأولى: فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين. وبعضهم بمعرفته تعالى. قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال لا تنافِي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها. وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب. انتهى.

وقيل: المراد بالأمانة الطاعة التي تعمّ الطبيعة والاختيارية، لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وبعرضها، استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار، وإرادة صدوره من غيره - وبحملها، والخيانة فيها والامتناع عن أدائها، فيكون الإباء امتناعاً عن الخيانة وإتياناً بالمراد. فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها، أبَيّنَ الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها. حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة. كما قال:قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11] وخانها الإنسان حيث لم يأت - وهو حيوان عاقل صالح للتكيف - بما أمرناه به؛ إنه كان ظلوماً جهولا. وإرادة الخيانة من حملها، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله. كما يقال (ركبته الديون) وقرره الزمخشري بقوله: وأما حمل الأمانة فمن قولك: (فلان حامل للأمانة ومحتمل لها) تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، ويخرج عن عهدتها. لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤمنين عليها، وهو حاملها.

السابقالتالي
2 3 4