الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } القسوة: الصلابة والشدّة واليُبْس. وهي عبارة عن خلوّها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما: المراد قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ٱبن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل لأنهم حين حَيِيَ وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كَذَب بعد ما رأوا هذه الآية العظمى فلم يكونوا قط أعمى قلوباً، ولا أشدّ تكذيباً لنبيّهم منهم عند ذلك، لكن نفذ حكم الله بقتله. روى الترمذي عن عبد اللَّه بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " وفي مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا " قوله تعالى: { فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } «أو» قيل: هي بمعنى الواو، كما قال:آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان: 24].عُذْراً أَوْ نُذْراً } [المرسلات: 6] وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدراً   
أي وكانت. وقيل: هي بمعنى بل كقوله تعالى:وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147] المعنى بل يزيدون. وقال الشاعر:
بَدتْ مِثل قَرْن الشمس في رَوْنق الضحى   وصورتِها أو أنت في العين أملح
أي بل أنت. وقيل: معناها الإبهام على المخاطب ومنه قول أبي الأسود الدُّؤَلِيّ:
أحبّ محمداً حبًّا شديداً   وعبّاساً وحمزة أو علِيّا
فإن يك حبّهم رشداً أصِبْه   ولستُ بمخطىء إن كان غيّا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر، وإنما قصد الإبهام. وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك: شككت! قال: كلا ثم ٱستشهد بقوله تعالى:وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [سبأ: 24] وقال: أو كان شاكًّا من أخبر بهذا! وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا وهذا كقول القائل: جالس الحسن أو ٱبن سيرين، وتعلّم الفقه أو الحديث أو النحو. وقيل: بل هي على بابها من الشك، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم: أهي كالحجارة أو أشدّ من الحجارة؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى:إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147]. وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم مَن قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشدّ من الحجر. فالمعنى: هم فرقتان. قوله تعالى: { أَوْ أَشَدُّ } «أشدّ» مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله «كالحِجَارَة» لأن المعنى فهي مثل الحجارة أو أشدّ. ويجوز أو «أشدَّ» بالفتح عطف على الحجارة.

السابقالتالي
2 3