الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }

ومادة: " شرى " ومادة " اشترى " كلها تدل على التبادل والتقايض، فأنت تقول: أنا اشتريت هذا الثوب بدرهم أي أنك أخذت الثوب ودفعت الدرهم، وشرى تأتي أيضاً بمعنى باع مثل قول الحق:وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ } [يوسف: 20]. فالجماعة الذين وجدوا سيدنا يوسف عليه السلام في الجب كانوا فيه من الزاهدين. وبعد ذلك باعوه بثمن بخس، إذن فـ " شرى " من الأفعال التي تأتي بمعنى البيع وبمعنى الشراء لأن المبيع والمشترى يتماثلان في القيمة، وكان الناس قديماً يعتمدون على المقايضة في السلع، فلم يكن هناك نقد متداول، كان هناك من يعطي بعض الحب ويأخذ بعض التمر، فواحد يشتري التمر وآخر يشتري الحب، والذي جعل المسألة تأخذ صورة شراء وبيع هو وجود سلع تباع بالمال. وما الفرق بين السلع والمال؟. السلعة هي رزق مباشر والمال رزق غير مباشر. فأنت مثلاً تأكل رغيف الخبز وثمنه خمسة قروش، لكنه لو عندك جبل من ذهب وتحتاج رغيفاً ولا تجده أينفعك جبل الذهب؟ لا. إذن فالرغيف رزق مباشر لأنك ستأكله، أما الذهب فهو رزق غير مباشر لأنك تشتري به ما تنتفع به. وبذلك نستطيع أن نحدد المسألة فالسلعة المستفادة منها مباشرة هي رزق مباشر، ندفع ثمنها مما لا ننتفع به مباشرة، والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعقد مع المؤمن به صفقة فيها بيع وشراء. وأنتم تعلمون أن البائع يعطي سلعة ويأخذ ثمناً، والشارى يعطي ثمناً ويأخذ سلعة، والحق يقول هنا: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ.. } [النساء: 74]. فالمؤمن هنا يعطي الدنيا ليأخذ الآخرة التي تتمثل في الجنة والجزاء، ومنزلة الشهداء ولذلك يقول الحق في آية أخرى:إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ.. } [التوبة: 111]. وقال بعدها:فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ.. } [التوبة: 111]. تلك هي الصفقة التي يعقدها الحق مع المؤمنين، وهو سبحانه يريد أن يعطينا ما نتعرف به على الصفقات المربحة، فكل منا في حياته يحب أن يعقد صفقة مربحة بأن يعطي شيئاً ويأخذ شيئاً أكبر منه، ولذلك يقول في آية أخرى:يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [فاطر: 29]. هنا أيضاً تجارة، وأنت حين تريد أن تعقد صفقة عليك أن تقارن الشيء الذي تعطيه بالشيء الذي تأخذه ثم افرق بينهما، ما الذي يجب أن يضحي به في سبيل الآخر؟. والحق قد وصف الحياة بأنها { ٱلدُّنْيَا.. } [النساء: 74] ولا يوجد وصف أدنى من هذا، فأوضح المسألة: إنك ستعطي الدنيا وتأخذ الآخرة، فإذا كان الذي تأخذه فوق الذي تعطيه فالصفقة - إذن - رابحة، فالدنيا مهما طالت فإلى نهاية، ولا تقل كم عمر الدنيا، لأنه لا يعنيك أن يكون عمر الدنيا ألف قرن، وإنما عمر الدنيا بالنسبة لكل فرد: هو مقدار حياته فيها، وإلا فإن دامت لغيري فما نفعي أنا؟.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10