الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ }

المتتبع لهذه القصة يجد أن القرآن استوعبها في سبع سور، لكن بأسلوب مختلف في كل منها، فمرة قال:أَبَىٰ.. } [الحجر: 31] ومرة قال:أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ.. } [البقرة: 34]. المسألة الأولى التي أردنا توضيحها في هذه القصة أن الحق سبحانه لم يجعل الجنة التي خرج منها آدم إلى الأرض هي جنة المأوى، لأنه لم يُخلق للجنة ثم خرج منها بمعصيته، إنما خُلق آدم للخلافة في الأرض، وفي أول بلاغ عنه من الله قال تعالى:إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً.. } [البقرة: 30]. إذن: هو مخلوق للأرض، ونظراً لأنه أبو البشر جميعاً، والبشر على صنفين: صنف معصوم هم الرسل، وصنف غير معصوم هم عامة الناس، فكان ولا بُدَّ أنْ يتمثّل في آدم ما ثبت للصنفين، عصى آدم أولاً، ثم اجتباه ربه وتاب عليه وعصمه الله بعدها، إذن: لم يَعْص آدم وهو نبي، إنما عصى قبل النبوة. والحق - سبحانه وتعالى - لما عرض هذه المسألة وقال:إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً.. } [البقرة: 30] لم يشأ سبحانه بعدالته ورحمته أنْ يُنزِلَ آدم إلى الأرض ليعمرها بغير منهج من المناهج التي تُصلح حركةَ الحياة، ولم يشأ أنْ يُجرِّب فيه التكليف الأول، فصنع له قطعة من الأرض فيها كل مقومات الحياة وترفها، وأسكنه إياها ليدربه على التوجيه والتكليف بافعل ولا تفعل. فأباح له أنْ يأكل من كل ما في هذا البستان إلا شجرة واحدة نهاه عن مجرد الاقتراب منها، ليمثل له الإباحة فيما أحل والحظر فيما منع، ثم ذكَّره بعداوة الشيطان له وحذَّر منه ومن وسوسته. لكن أغوى الشيطانُ آدمَ، فأكل من الشجرة التي نُهِي عنها، وحدثتْ منه المخالفة التي ترتب عليها ظهور عورته لأول مرة، وهنا إشارة رمزية إلى أن العورات لا تظهر في المجتمع إلا بمخالفة منهج الله. ثم نقف أيضاً عندوَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ.. } [البقرة: 35] فلم يقل سبحانه: ولا تأكلا من هذه الشجرة، بل نهى عن مجرد قربها، لأن من حام حول الحِمَى يُوشِك أنْ يواقعه. لذلك تجد الحق سبحانه حين يحدثنا عن الحدود التي أحلها الله لنا يقول:تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [البقرة: 229] أما في الحدود التي حرّمها فيقول:تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [البقرة: 187]. ونلحظ في الآية التي معنا قوله تعالى: { يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ.. } [ص: 75] وفي الأعراف قال:مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ.. } [الأعراف: 12] فمرة بالإثبات ومرة بالنفي. والمعنى واحد، لأن المتكلم بهذا الكلام هو الله رَبُّ العالمين، معنى { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ.. } [ص: 75] يعني: أردتَ أنْ تسجد، فعرض لك عارض، أمامَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ.. } [الأعراف: 12] يعني: أمَنعكَ مانع فلم تسجد قهراً عنك؟ وقوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.

السابقالتالي
2 3