الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }

الأظهر أن الضمير في { لقوا } عائد على بني إسرائيل على نسق الضمائر السابقة في قولهأفتطمعون أن يؤمنوا } البقرة 75 وما بعده، وأن الضمير المرفوع بقالوا عائد عليهم باعتبار فريق منهم وهم الذين أظهروا الإيمان نفاق أو تفادياً من مر المقارعة والمحاجة بقرينة قوله { آمنا } وذلك كثير في ضمائر الأمم والقبائل ونحوها نحو قوله تعالىوإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } البقرة 232 لأن ضمير { طلقتم } للمطلقين وضمير { تعضلوا } للأولياء لأن الجميع راجع إلى جهة واحدة وهي جهة المخاطبين من المسلمين لاشتمالهم على الصنفين، ومنه أن تقول لئن نزلت ببني فلان ليكرمنك وإنما يكرمك سادتهم وكرماؤهم ويكون الضمير في قوله { بعضهم } عائد إلى الجميع أي بعض الجميع إلى بعض آخر ومعلوم أن القائل من لم ينافق لمن نافق، ثم تلتئم الضمائر بعد ذلك في { يعلمون } و { يُسرون } و { يُعلنون } بلا كلفة وإلى هذه الطريقة ذهب صاحب «الكشاف» ويرجحها عندي أن فيها الاقتصار على تأويل ما به الحاجة والتأويل عند وجود دليله بجنبه وهو { آمنا }. وجملة { إذا لقوا } معطوفة على جملةوقد كان فريق منهم } البقرة 75 على أنهم حال مثلها من أحوال اليهود وقد قصد منها تقييد النهي أو التعجيب من الطمع في إيمانهم فهو معطوف على الحال بتأويل وقد كان فريق منهم آخرُ إذا لقوا. وقوله { وإذا خلا بعضهم } معطوف على { إذا لقوا } وهم المقصود من الحالية أي والحال أنهم يحصل منهم مجموع هذا لأن مجرد قولهم { آمنا } لا يكون سبباً للتعجب من الطمع في إيمانهم فضمير { بعضهم } راجع إلى ما رجع إليه { لقوا } وهم عموم اليهود. ونكتة التعبير بـ { قالوا آمنا } مثلها في نظيره السابق في أوائل السورة البقرة 14. وقوله { أتحدثونهم } استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام دل على أنهم جرى بينهم حديث في ما ينزل من القرآن فاضحاً لأحوال أسلافهم ومثالب سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم. والظاهر عندي أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبي من بعض الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا المسلمين ببعض قصص قومهم ستراً لكفرهم الباطن فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار أي كيف يبلغ بكم النفاق إلى هذا وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين كفاية على حد قول المثل الذي حكاه بشار بقوله
واسعدْ بما قال في الحلم ابنُ ذي يَزَن يَلْهُو الكِرام ولا يَنْسَوْن أحسابا   
فحكى الله ذلك عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفراً من قومهم جواسيس على النبي والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء التدبير وأنهم ذهبوا يتجسسون فكشفوا أحوال قومهم، ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد { أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به، فعن السدي كان بعض اليهود يحدث المسلمين بما عذب به أسلافهم، وعن أبي العالية قال بعض المنافقين إن النبي مذكور في التوراة، وعن ابن زيد كانوا يخبرون عن بعض قصص التوراة.

السابقالتالي
2 3 4