الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }

{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } الاية اى ليس من يختص بقربة الحق وكشف مشاهدته ان يلتفت سره الى رياسة الخلق وحرمتهم له وان يرى لنفسه قيمة عند اجلال عظمة الحق لان من بلغ تحقيق التوحيد لا يرى لنفسه وزنا عندما يبدو من تجلى عظمة الحق ويكون خجلا على الدوام بين يدى الرحمن من وجوده عند وجود الحق ويريد فناء وجوده استحياء من ربه تعالى ولكن ما راى نعم الله تعالى من كشف جماله وقرب وصاله وتعرفه بالجلال والعز والكبرياء والعظمة والقهر واللطف اشفق على الخلق ويدعوهم الى عبادته وطالب مرضاته وهذا معنى قوله تعالى: { وَلَـٰكِنْ كُوْنُوْاْ رَبَّانِيِّيْنَ } ومعنى كونوا ربانيين امر من الحق تعالى لانبيائه واوليائه اى كونوا موصوفين بصفتى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تخلقوا باخلاق الرحمٰن " وهذا وصف من كساه الله سنا قدس جمال الازلى وجلال الابدى قبل كون طينة البشر فكان منورا بنور صبح القدم اذا الاشباح والاجسام فى العدم فاذا اسكن الارواح فى ظلم الهياكل خاطبهم بخطاب الانبساط فقال لا تنسبوا الى الماء والطين ولكن انتسبوا الى الحق بنعت المحبة والمكاشفة والمشاهدة والاتصاف بصفاته والتربية فى حجر وصاله وكونهم بافعاله الخاصة الذاتية القدمية وليس هؤلاء كمن كان كونه بالامر لان الامر للعوام والفعل للخواص مع ان الحق جل عن الاشكال والاشباه والخيال والاوهام والافهام والجزء والكل والتبعيض والصور والازمان والمكان تعالى كبرياؤه وجلت صفاته قوله: { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُوْنَ ٱلْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } اى لكم خاصة علم اللدنى وعلم الكتاب والسنة والشريعة بها يلزم عليكم الخروج عن رسم الانسانية واوصاف البشرية وقال جعفر الصادق فى قوله تعالى { كونوا ربانيين } قال مستعمين بسمع القلوب وناظرين باعين الغيوب وقيل وكونوا ربانيين: علماء في الله عن عباده وقال ابن عطاء عاينوا اول تربيتكم ليخلصوا من هذه الآفات كلها وقال ايضا اخرجهم بهذا الخطاب عما خاطبهم به من العبودية قال الواسطى عاينوا اوقات تربيتكم وتقديركم قبل آدم ومحمد عليهما الصلاة والسلام فالانتساب الى آدم والافتخار بمحمد صلى الله عليهما وسلم ليس بالافتخار ممن قدسك فى الازل وقال ايضا قال كونوا كابى بكر اذا اورد عليه قوادح الامور لا يؤثر على سره حين قال النبى صلى الله عليه وسلم يوم بدر دع بعض مناشدتك ربك فانه ينجز لك ما وعدك وقال ايضا فى هذه الآية امر ابراهيم عليه السلام بالاستسلام وامر محمداً صلى الله عليه وسلم بالعلم فقال فاعلم والاستيلام اظهار العبودية والعلم به والتوسل الى الازلية والابدية لذلك خاطبهم فقال كونوا ربانيين وايضا قال كونوا ربانيين جذبهم بهذا من الافتخار بالطين الى الافتخار بالحق قال الجنيد اخرجهم من الكون جملة وجذبهم الى الحق اشارة فاذا اردت ان تعرف مقامات الخلق وبواطنهم فى الحقيقة فانظر الى تصرف اخلاقهم تجد كل واحد قائما فى اشخاصه استقطعه ما وافق سريرته فانظر بما ربطت القلوب فيشهد سرائرهم لانهم اخذوا من المصادر الاول فمن لم يستقطعه الا اسبال انواره والحياء فيما ورد عليه ايقن كيفية باطنه على الحقيقة تنازعه فى ربوبيته وتمر عليه فى عبوديته وانت لا تشعر وقال بعض العراقين اخرجهم من آدم ونزاهم منه كى ينسبوا العبودية والافتخار بالماء والطين وقال الشبلى اخرجهم عما خاطبهم به من العبودية فمن استحق العلم به استحق علم الربانية والربانى الذى لا ياخذ العلوم الا من الرب ولا يرجع فى بيانه الا الى الرب جل وعلا وقال الواسطى فى هذه الأية كونوا ربانيين لان تكون ابن الازل والابد خير لك واحسن بك من ان تكون ابن الماء والطين والافعال والاحصاء والعدد وقال سهل الربانى هو العالم بالله العالم بامر الله والمكاشف له من العلوم اللدنى ما غاب عن غيره وقال ايضا الربانى الذى لا يختار على ربه حالا وقال الجريرى كونوا ربانيين اى سامعين من الله ناطقين بالله وقال فضل بن العباس الشكلى قال كونوا كابى بكر الصديق فانه لما مات محمد صلى الله عليه وسلم اضطرب الاسرار كلها لموته ولم يؤثر ذلك فى سر ابى بكر فقال من كان منكم يعبد محمداً فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حى لا يموت وقال القاسم كونوا ربانيين متخلقين باخلاق الحق علماء وحلماء وقال بعضهم الربانى بحقه من نسى نفسه فى نسيانه فنسى اوقاته باوقاته ونسى آجاله وارزاقه بصفاته فصفاته جذبته الى ذاته وذات ملكه عن صفاته وقيل الربانى من ارتفع عنه ظل نفسه وعاش فى كون ظله وقيل الربانى الذى هو محق فى وجوده ومحو عن شهوده فالقائم عنه غيره والمحوى لما عليه سواه وقيل الربانى الذى لا يوثر فيه تصاريف الاقدام على اختلافها وقيل الربانى الذى لا تستفزه محنة ولا يهزه نعمة فهو على حالة واحدة فى اختلاف الطوارق وقيل الربانى الذى لا يتاثر بورود وارد عليه فمن استعطفه رقة قلب واستماله هجوم امر او تفاوت عنده اخطار حادث فليس بربانى وقيل الربانى الذى لا يبالى بشئ من الحوادث بقوله وسره وان كان لا يقصر فى شئ من الشرع بفعله وقيل بما كنتم تدرسون من توالى احسانى اليكم وتضاعف نعمتى لديكم وقيل بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون من آلائي ونعمائى وما توليت من اموركم.