الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }

قوله تعالى: { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا }: المستفهمُ عنه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه. فقدَّره أبو البقاء: " كيف تَطْمئنون أو: كيف يكونُ لهم عهدٌ ". وقدَّره غيره: كيف لا تقاتلونهم. والتقديرُ الثاني مِنْ تقديرَي أبي البقاء أحسنُ، لأنه مِنْ جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقوى، وقد جاء الحذف في هذا التركيبِ كثيراً، وتقدَّم منه قولُه تعالى:فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } [آل عمران: 25]فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا } [النساء: 41]، وقال الشاعر:
2456 ـ وخبَّرْ تُماني أنَّما الموتُ بالقُرى   فكيف وهاتا هَضْبةٌ وكَثِيبُ
أي: كيف مات؟، وقال الحطيئة:
2457 ـ فكيف ولم أعلَمْهُمُ خَذَلُوكُمْ   على مُعْظِمٍ ولا أَدِيْمَكُمُ قَدُّوا
أي: كيف تَلُومني في مدحهم؟ قال الشيخ: " وقدَّر أبو البقاء الفعلَ بعد " كيف " بقوله: " كيف تطمئنون " ، وقدَّره غيرُه بكيف لا تقاتِلونهم ". قلت: ولم يقدّره أبو البقاء بهذا وحدَه، بل به وبالوجه المختار كما قدَّمْتُه عنه.

قوله: { وَإِن يَظْهَرُوا } هذه الجملةُ الشرطية في محل نصبٍ على الحال أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قوله:وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } [الأعراف: 169]. و " لا يرقُبوا " جوابُ الشرط. وقرأ زيد بن علي: " وإن يُظْهَروا " ببنائِه للمفعول، مِنْ أظهره عليه أي: جعله غالباً له.

قوله: { إِلاًّ } مفعولٌ به بـ " يرقُبوا " أي: لا يَحْفظوا. وفي " الإِلِّ " أقوالٌ لأهل اللغةِ أحدها: أن المراد به العهد، قاله أبو عبيدة وابن زيد والسدِّي، ومنه قول الشاعر:
2458 ـ لولا بنو مالكٍ والإِلُّ مَرْقَبَةٌ   ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
أي: الحِلْف. وقال آخر:
2459 ـ وجَدْناهُما كاذِباً إِلُّهُمْ   وذو الإِلِّ والعهدِ لا يَكْذِبُ
وقال آخر:
2460 ـ أفسدَ الناسَ خُلوفٌ خَلَفُوا   قطعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ
وفي حديث أمِّ زرع: " بيت أبي زرع وَفِيُّ الإِلِّ، كريم الخِلّ، بَرودُ الظلّ " أي: وفيُّ العهد.

الثاني: أن المرادَ به القَرابة، وبه قال الفراء، وأنشد لحسان رضي الله عنه:
2461 ـ لَعَمْرك إنَّ إِلَّكَ مِنْ قريشٍ   كإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله:
2462 -.................   قطعوا الإِلَّ وأعراق الرَّحِمْ
الثالث: أن المرادَ به الله تعالى أي: هو اسم من أسمائه، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عُرِض عليه كلام مُسَيْلمه - لعنه الله ـ: " إنَّ هذا الكلام لم يَخْرج من إلّ " أي: الله عز وجل. ولم يرتضِ هذا الزجاج قال: " لأن أسماءَه تعالى معروفة في الكتاب والسنة، ولم يُسْمَعْ أحدٌ يقول: يا إلُّ افعلْ لي كذا.

الرابع: أن الإِلَّ الجُؤَار، وهو رَفْعُ الصوت عند التحالُفِ، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا وتحالفوا جَأَرُوا بذلك جُؤَاراً، ومنه قول أبي جهل:

السابقالتالي
2 3