الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

وفيه إشراقات:

الإشراق الأوّل

في القراءة

قرأ زيد بن علي (ع): " إنّه ملاقيكم " بدون الفاء، وفي قراءة ابن مسعود: " تفرّون منه ملاقيكم " وهي ظاهرة. وأمّا التي بالفاء فلتضمّن الذي معنى الشرط. وقيل: إنّ التقدير: قل إنّ الموت هو الذي تفرّون منه، فجعل الذي في موضع الخبر، لا صفة للموت، ويكون " فإنّه " مستأنفاً، وكذلك في قراءة زيد قد جعل: إنّ الموت الذي تفرّون منه، كلاماً برأسه، أي إنّ الموت هو الشيء الذي تفرّون منه، ثمّ استؤنف: إنّه ملاقيكم.

الإشراق الثاني

لا ينفع الفرار من الموت

قُلْ - يا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) - إنَّ الْمَوتَ الذي تَفِرّونَ مِنْهُ - لاعتباركم بصحبة أهل الدنيا وأبنائِها وشهواتِها ونسائها ومالِها وأسبابِها وبنائِها - فَأِّنَّهُ مُلاَقيكُمْ - أي إنّكم وإن فررَتم من الموت أو القتل بتقوية المزاج، وأكل الأغذية الجيّدة والمشروبات المقوية، والتداوي بالأدوية والترياقات لدفع السموم والآفات، وتحصيل الوقايات من الأسلحة الدافعة والدروع الواقية، واتّخاذ الأبنية والحُصُن الرفيعة والقلاع العالية الحصينة والبروج المشيدة الحارسة عن العدوّ - إلى غير ذلك من التدابير البشريّة والحيل الآدميّة لمدافعة الموت -، فإنّه لا ينفعكم عند حلول الأجل المعلوم عند الله، ولا بدّ أن ينزل بكم الموت ويلاقيكم ويدرككم، ولا ينفعكم الهرب منهأَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء:78].

وإنّما قال بالفاء وحرف التأكيد والجملة الاسميّة مبالغة في الدلالة على أنّه لا ينفع الفرار منه، فسواء فّروا منه أو لم يفرّوا فإنّه ملاقيهم، بل ربما كان نفس الفرار من أسباب الموت، كما يشاهَد في بعض مواضع الاحترازات والعلاجات الطبيّة والنجوميّة حيث يصير بعينه سبباً من أسباب الوقوع فيما وقع الفرار منه. فإذا كان الفرار كالسبب في ملاقاة ما يفرّ منه فلا معنى للتعرّض للفرار لأنّه لا يباعدهم على أيّ وجه.

وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (ع): كلّ امرئ لاقٍ ما يفرّ منه والأجَل مساق النفس، والهرب منه موافاته.

وقال زهير:
ومن هابَ أسباب المنايا ينلنه   ولو نالَ أسبابَ السماء بسْلّم
ولا شكّ أنّها تناله هابَها أو لم يهبَها، ولكنّها ذا كانت بمنزلة السبب للمنيّة فالهيبة لا معنى لها.

الإشراق الثالث

في حكمة الموت

إعلم أنّه قد تقرّر في العلوم الكليّة بيان حكمة الموت، وحكمة نفرة النفس عنه، أمّا حكمة الموت، فلأنّ كون النفس في هذه الدنيا حال نقص دون التمام، وكونها في الآخرة حال تمام، فالبقاء على حال التمام أفضل وأكمل وألذّ وأشرف، كما ان حال الأبدان في الأرحام حال نقص عن التمام والكمال، وحالها بعد الولادة حال تمام وكمال كما لا يخفى على أحد، ولا يجوز في العناية الربّانيّة إهمال شيء من الكمالات والخيرات، وعدم الإجادة به على مستحقّه، فيجب بمقتضى جوده ورحمته إكمال كلّ ناقص بكماله اللائق بحاله.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10