الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

{ إذْ } ظرف متعلق بـــ كَان من قولهلقد كَان في يوسف وإخوته آيات للسائلين } سورة يوسف 7، فإنّ ذلك الزمان موقع من مواقع الآيات فإن في قولهم ذلك حينئذٍ عبرة من عبر الأخلاق التي تنشأ من حسد الإخوة والأقرباء، وعبرة من المجازفة في تغليطهم أباهم، واستخفافهم برأيه غروراً منهم، وغفلة عن مراتب موجبات ميل الأب إلى بعض أبنائه. وتلك الآيات قائمة في الحكاية عن ذلك الزمن. وهذا القول المحكي عنهم قول تآمر وتحاور. وافتتاحُ المقول بلام الابتداء المفيدة للتّوكيد لقصد تحقيق الخبر. والمراد توكيد لازم الخبر إذ لم يكن فيهم من يشك في أنّ يوسف عليه السّلام وأخاه أحبّ إلى أبيهم من بقيّتهم ولكنّهم لم يكونوا سواء في الحسد لهما والغيرة من تفضيل أبيهم إيّاهما على بقيتهم، فأراد بعضهم إقناع بعض بذلك ليتمالؤوا على الكيد ليوسف عليه السّلام وأخيه، كما سيأتي عند قوله { ونحن عصبة } ، وقولهقال قائل منهم لا تقتلوا يوسف } سورة يوسف 10 فقائل الكلام بعض إخوته، أي جماعة منهم بقرينة قوله بعداقتلوا يوسف } سورة يوسف 9 وقولهمقال قائل منهم لا تقتلوا يوسف } سورة يوسف 10. وأخو يوسف عليه السّلام أريد به بنيامين وإنّما خصّوه بالأخوة لأنّه كان شقيقه، أمهما راحيل بنت لابان، وكان بقية إخوته إخوة للأب، أمُّ بعضهم ليئة بنت لابان، وأمّ بعضهم بلهة جارية ليئة وهبتْها ليئة لزوجها يعقوب عليه السّلام. و { أحب } اسم تفضيل، وأفعل التفضيل يتعدّى إلى المفضّل بـــ من، ويتعدّى إلى المفضّل عنده بـــ إلى. ودعواهم أنّ يوسف ـــ عليه السّلام ـــ وأخاه أحبّ إلى يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ منهم يجوز أن تكون دعوى باطلة أثار اعتقادها في نفوسهم شدّةُ الغيرة من أفضليّة يوسف ـــ عليه السّلام ـــ وأخيه عليهم في الكمالات وربّما سمعوا ثناء أبيهم على يوسف ـــ عليه السّلام ـــ وأخيه في أعمال تصدر منهما أو شاهدوه يأخذ بإشارتهما أو رأوا منه شفقة عليهما لصغرهما ووفاة أمّهما فتوهّموا من ذلك أنّه أشدّ حبّاً إيّاهما منهم توهماً باطلاً. ويجوز أن تكون دعواهم مطابقة للواقع وتكون زيادة محبّته إيّاهما أمراً لا يملك صرفه عن نفسه لأنّه وجدان ولكنّه لم يكن يؤثرهما عليهم في المعاملات والأمور الظاهريّة ويكون أبناؤه قد علموا فرط محبّة أبيهم إيّاهما من التوسّم والقرائن لا من تفضيلهما في المعاملة فلا يكون يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ مؤاخذاً بشيء يفضي إلى التباغض بين الإخوة. وجملة { ونحن عصبة } في موضع الحال من { أحبُّ } ، أي ونحن أكثر عدداً. والمقصود من الحال التعجّب من تفضيلهما في الحبّ في حال أنّ رجاء انتفاعه من إخوتهما أشدّ من رجائه منهما، بناء على ما هو الشائع عند عامّة أهل البدو من الاعتزاز بالكثرة، فظنوا مدارك يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ مساوية لمدارك الدّهماء، والعقولُ قلما تدرك مراقي ما فوقها، ولم يعلموا أنّ ما ينظر إليه أهل الكمال من أسباب التفضيل غير ما ينظره مَن دونهم.

السابقالتالي
2