الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

{ وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً }. والخيل معطوف علىوالأنعام خلقها } سورة النحل 5. فالتقدير وخلق الخيل. والقول في مناط الاستدلال وما بعده من الامتنان والعبرة في كلّ كالقول فيما تقدّم من قوله تعالى { والأنعام خلقها لكم فيها دفء } الآية. والفعل المحذوف يتعلق به { لتركبوها وزينة } ، أي خلقها الله لتكون مراكب للبشر، ولولا ذلك لم تكن في وجودها فائدة لعمران العالم. وعطف { وزينة } بالنصب عطفاً على شبه الجملة في { لتركبوها } ، فجُنّب قرنه بلام التعليل من أجل توفر شرط انتصابه على المفعولية لأجله، لأن فاعله وفاعلَ عامله واحد، فإن عامله فعلُ { خلق } في قوله تعالى { والأنعام خلقها } إلى قوله تعالى { والخيل والبغال } فذلك كله مفعول به لفعل { خلقها }. ولا مرية في أن فاعل جَعْلها زينة هو الله تعالى، لأن المقصود أنها في ذاتها زينة، أي خلقها تزين الأرض، أو زين بها الأرض، كقوله تعالىولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح } سورة الملك 5. وهذا النصب أوضح دليل على أن المفعول لأجله منصوب على تقدير لام التعليل. وهذا واقع موقع الامتنان فكان مقتصراً على ما ينتفع به المخاطبون الأولون في عادتهم. وقد اقتصر على منّة الركوب على الخيل والبغال والحمير والزينة، ولم يذكر الحمل عليها كما قال في شأن الأنعاموتحمل أثقالكم } سورة النحل 7، لأنهم لم تكن من عادتهم الحمل على الخيل والبغال والحمير، فإن الخيل كانت تركب للغزو وللصيد، والبغال تركب للمشي والغزو. والحمير تركب للتنقل في القرى وشبهها. وفي حديث البخاري عن ابن عباس في حجّة الوداع أنه قال جئت على حمار أتان ورسول الله يصلي بالناس الحديث. وكان أبو سَيارة يجيز بالناس من عرفة في الجاهلية على حمار وقال فيه
خلوا السبيل عن أبي سياره وعن مواليه بني فزاره حتى يجيز راكباً حماره مستقبل الكعبة يدعو جاره   
فلا يتعلق الامتنان بنعمة غير مستعملة عند المنعم عليهم، وإن كان الشيء المنعم به قد تكون له منافع لا يقصدها المخاطبون مثل الحَرث بالإبل والخيل والبغال والحمير، وهو مما يفعله المسلمون ولا يعرف منكر عليهم. أو منافع لم يتفطن لها المخاطبون مثل ما ظهر من منافع الأدوية في الحيوان مما لم يكن معروفاً للناس من قبلُ، فيدخل كل ذلك في عموم قوله تعالىهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } في سورة البقرة 29، فإنه عموم في الذوات يستلزم عموم الأحوال عدا ما خصّصه الدليل مما في آية الأنعام 145قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه } الآية. وبهذا يعلم أن لا دليل في هذه الآية على تحريم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير لأن أكلها نادر الخطور بالبال لقلّته، وكيف وقد أكل المسلمون لحوم الحمر في غزوة خيبر بدون أن يستأذنوا النبي كانوا في حالة اضطرار، وآية سورة النحل يومئذٍ مقروءة منذ سنين كثيرة فلم ينكر عليهم أحد ولا أنكره النبي.

السابقالتالي
2 3