الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }

نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى لم يقل كيف يكون للمشركين عهد، بل اكتفى بـ " كيف " ، لأن غدرهم صار معروفاً، وكانت " كيف " الأولى استفهاماً عن أمر مضى. والتساؤل هنا يوضح لنا أنهم سيخونون العهد دائماً، كما فعلوا في الماضي، فكأن الذي يخبر في الماضي يخبر أيضاً عن المستقبل ويعلم ما يكون منهم. ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله: { وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ.. } [التوبة: 8]. ومعنى " يظهروا " ، أي يتمكنوا منكم، وهم إن تمكنوا من المؤمنين لا يرقبون فيهم إلاّ ولا ذمّة، و " يرقب " من الرقيب الذي يراقب الأشياء. إذن فهم لا يراقبون بمعنى لا يراعون، أي أنهم لو تمكنوا من المؤمنين لا يراعون ذمة ولا عهداً ولا ميثاقاً، بل يستبيحون كل شيء. وهذا إخبار من الحق سبحانه وتعالى عما في نفوس هؤلاء الكفار من حقد على المؤمنين. ونلاحظ أن كلمة " يرقبون " غير " ينظرون " ، وغير " يبصرون " ، وهي أيضاً غير " يلمحون " وغير " يرمقون " ، مع أنها كلها تؤدي معنى الرؤية بالعين، ولكن يرقب تعني يتأمل ويتفحص باهتمام حتى لا تفوته حركة، لذلك إذا قلنا: إن فلاناً يراقب فلاناً، أي لا تفوته حركة من حركاته وهو ينظر لكل حركة تصدر منه. أما كلمة " نظر " فتعني رأى بجميع عينيه، وكلمة " لمح " تعني رأى بمؤخر عينيه، و " رمق " أي رأى من أعلى. وقوله سبحانه وتعالى { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } يعني لا يراعون فيكم عهداً، ولا يمنع الواحد منهم وازع من أن يفعل أي شيء مهما كان قبيحاً والمثال: أن يرفع الرجل القوي يده ليضرب طفلاً صغيراً لا يتحمل ضربته، هنا يمسك أحدهم بيده ويطلب منه أن يراعي أن الطفل صغير لا يتحمل ضربته، وأنه ابن فلان قريبه، وأنهم جيران فلا يراعي هذا كله، وإنما ينهال على الطفل ضرباً. وقوله سبحانه وتعالى: " إِلاًّ " هي في الأصل اللمعان أي البريق، و " إِلاّ " أيضاً هي الصوت العالي، واللمعان والصوت العالي لافتان لوسائل الإعلام الحسّية، وهي الأذن والعين، والإنسان إذا عاهد عهداً فهذا العهد يصبح أمراً واضحاً أمامه يلفت عيونه كما يلفتها الشيء اللامع، ويلفت أذنه كما يلفتها الصوت العالي، وسُمي العهد والكلام " إلاّ " لأنه معلوم بالعين والأذن. هذا هو المعنى اللغوي، لكن المعنى الاصطلاحي لكلمة " إلاّ " هو الغصب، بأن تشد شيئاً كأنك تغصبه على عدم الالتصاق بشيء آخر، ولذلك سُمِّي سلخ جلد الشاة غصباً لأن اللحم ملتصق بالجلد، وسُمي أخذ المال غصباً لأن صاحب المال متمسك بماله تمسك الشاة الحية بجلدها.

السابقالتالي
2 3 4