الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ }

الحجر ينطلق على معان: منها حجر الكعبة. ومنها الحرام قال الله تعالى:وحِجْراً مَّحْجُوراً } [الفرقان: 22] أي حراماً محرماً. والحجر العقل قال الله تعالى:لِّذِى حِجْرٍ } [الفجر: 5] والحِجْر حِجر القميص والفتح أفصح. والحجر الفرس الأنثى. والحجر ديار ثمود، وهو المراد هنا، أي المدينة قاله الأزهريّ. قتادة: وهي ما بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذي فيه ثمود. الطبريّ: هي أرض بين الحجاز والشام، وهم قوم صالح. وقال: { ٱلْمُرْسَلِينَ } وهو صالح وحده، ولكن من كذب نبيًّا فقد كذّب الأنبياء كلهم لأنهم على دين واحد في الأصول فلا يجوز التفريق بينهم. وقيل: كذبوا صالحاً ومن تبعه ومن تقدّمه من النبيّين أيضاً. والله أعلم. روى البخاريّ عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تَبُوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها. فقالوا: قد عَجَنَّا وٱستقينا. فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُهَرِيقوا الماء وأن يطرحوا ذلك العجين. وفي الصحيح عن ٱبن عمر: أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود، فاستقوْا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُهَرِيقوا ما استقوْا ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تَرِدها الناقة. وروي أيضاً عن ابن عمر قال: " مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذَراً أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم ثم زجر فأسرع ". قلت: ففي هذه الآية التي بين الشارع حكمها وأوضح أمرها ثمان مسائل، استنبطها العلماء واختلف في بعضها الفقهاء، فأوّلها: كراهة دخول تلك المواضع، وعليها حمل بعض العلماء دخول مقابر الكفار فإن دخل الإنسان شيئاً من تلك المواضع والمقابر فعلى الصفة التي أرشد إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم من الاعتبار والخوف والإسراع. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدخلوا أرض بابلَ فإنها ملعونة ". مسألة: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به لأجل أنه ماء سخط، فلم يجز الإنتفاع به فراراً من سخط الله. وقال «اعلفوه الإبل». قلت: وهكذا حكم الماء النجس وما يعجن به. وثانيها: قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم إذ لا تكليف عليها وكذلك قال في العسل النجس: إنه يعلفه النحل. وثالثها: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل، ولم يأمر بطرحه كما أمر في لحوم الحُمُر الإنسية يوم خَيْبَر فدلّ على أن لحم الحُمُر أشد في التحريم وأغلظ في التنجيس.

السابقالتالي
2 3 4 5 6