الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ }

{ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المنافقين { أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أي: فإنهما في حقهما سواء. ثم بيّن استحالة المغفرة لهم وإن بولغ في الاستغفار بقوله تعالى: { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ } أي: عدم الغفران لهم { بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن حدوده.

تنبيهات

الأول: جملة قوله تعالى: { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الخ، إنشائية لفظاً، خبرية معنى. والمراد التسوية بين الاستغفار لهم، وتركه، في استحالة المغفرة. وتصويرُه بصورة الأمر، للمبالغة في بيان استوائهما، كأنه عليه الصلاة والسلام أمر بامتحان الحال، بأن يستغفر تارة، ويترك أخرى، ليظهر له جلية الأمر، كما مر في قوله تعالى:قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [التوبة: 53]، وقد وردت بصيغة الخبر في سورة " المنافقون " في قوله تعالى:وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } [المنافقون: 5-6].

الثاني: قال الزمخشريّ: (السبعون) جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير. قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام:
لأَصْبَحَنَّ العاصَ وابن العاصِي   سَبْعِينَ أَلْفاًَ عَاقِدِي النَّوَاصِي
أي: فذكرها للمبالغة في حسم مادة الاستغفار لهم، جرياً على أساليب العرب في ذكرها للمبالغة لا للتحديد، بأن يكون ما زاد عليها بخلافها.

وقال أبو السعود: شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنها العدد بأسره. وقيل: هي أكمل الأعداد، لجمعها معانيها، ولأن الستة أول عدد تامّ، لتعادل أجزائها الصحيحة، إذ نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وسدسها واحد، وجملتها ستة، وهي مع الواحد سبعة، فكانت كاملة، إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال، ثم السبعون غاية الكمال، إذ الآحاد غايتها العشرات، والسبعمائة غاية الغايات - انتهى.

الثالث: روى البخاريّ وغيره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما أراد أن يصدّه عن الصلاة على عبد الله بن أبيّ: " إنما خيّرني الله فقال: { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية، وسأزيده على السبعين " فظاهر هذا أن (أو) للتخيير، وأن السبعين له حدٌ يخالفه حكم ما وراءه، وهو من الإشكال بمكان. ولذا قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته؟ والذي يفهم من هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ... } الآية - فبين الصارف عن المغفرة لهم، حتى قال: قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين. ثم أجاب الزمخشريّ بقوله: قلت لم يخف عليهك ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام:

السابقالتالي
2