الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ }

فإن المنكر للمعاد لمّا مثّل لإثبات مدعاه من استحالة أن يبعث الإنسان بمثال يتعجب به، وذلك هو تكوّن الإنسان من العظم البالي، فضرب الله مثالاً آخر في مقابلة مثاله، بكون تكوّن ما يتكوّن منه أعجب وأبعد في نظر العقل مما يتعجب هو منه، ومع ذلك فهو أمر معلوم مشاهد لا يمكن لأحد إنكاره، فذكر من بدائع خلقه وعجائب فطرته، مثال انقداح النار من الشجر الأخضر، وهو أمر عجيب الشأن كثيراً، فإن النار مضادة للماء بكلتا كيفيتيه، لحرارتها وبرودته، ويبوستها ورطوبته، فينطفي عند وصوله إليها، فكيف تتولد هي منه.

فلو قيل لأحد: إن الشجر الرطب المطفي للنار يتولد منه نار محرقة له، وأن النار تنقدح من الشجر الأخضر، وأنها من الزناد التي توري بها الأعراب وأهل البوادي، كما أذعن به ابتداء، فالمرخ والعفار من الأشجار لها هذه الخاصية، يقطع منهما غصنتان مثل السِواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فيتخذ الرجل وقوده منهما ويسحق " المرخ " وهو الذكر على " العفار " وهي أنثى فتنقدح له النار بإذن الله.

وقيل: في كل شجر نار، إذا احتاج الإنسان حك بعضه ببعض فيخرج منه النار، وفي أمثال العرب: " في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ".

وعن ابن عباس: ليس من شجرة إلاّ وفيها نار إلاّ العنّاب. قالوا: ولذلك يتخذ منه كذينقات القصّارين.

و " الأخضر " بالتذكير، لأنه محمول على اللفظ - وقرئ " الخضراء " حملا على المعنى، ونحوه قوله تعالى:مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ } [الواقعة:52 - 54] فالذي خلق بقدرته النار المحرقة من الشجرة الرطبة، فبأن يكون قادراً على خلق الإنسان مما بقي منه أحرى، ولإذعان العقول به أوْلىٰ.

توضيح تنبيهي وتمثيل تفصيلي

إن أكثر أعداء الأنبياء وخصماء الأولياء هم جهلة الطبيعيين وأوساخ الدهريين، ومن يحذو حذوهم - كالأطباء والمتشبهين بالحكماء، المتشبّثين بذيل الفلاسفة - عادتهم أن يأخذوا في طلب العلة واللِّمِيَّة لكل شيء، وجعلوا مدار امتيازهم عن العوام وآحاد أهل الإسلام أن يعترضوا منكرين لكل شيء، لم يعلموا أن خصوصيات المواد الجزئية ليس في وسع العقول البشرية - ما دامت في كورة الطبيعة - أن تقيم الحجة على كل منها، بل لها بعد الإطلاع على كليات المعارف الإعتقادية، قبول الخصوصيات التي لم يقمّ بين يديها دليل على استحالتها عند سماعها عمن لا يشغل سره غير الحق، ولا يتمجمج لسانه بالباطل، أو التوقف فيها إذا لم يترجح فيها جانب على جانب لديه.

فالجاهل من الطبيعي ومن يحذو حذوه، يأخذون في طلب علة كل شيء خاصية كالطبيعة التي لسقمونيا لاسهال الصفراء، وطبيعة افتيمون لإسهال السوداء، بما ليس في عناصره ومواده ذاك، وكذا الطبيعة المقناطيسية لجذب الحديد، وكما أنهم يطلبون العلة في آحاد البسائط، ويريدون أن تكون العلة مستفادة من عنصر الشيء، ولا يحيلونها إلى الأمور الإلهية التي تنبعث منها أسباب كل شيء ومبادئه، بل يطلبون أن يخيل لهم كل قوة وكل طبيعة حتى تصير مرتسمة في أذهانهم من غير ارتياض لهم في العقليات، ولا مكاشفات ذوقية لهم في السمعيات، ولم يعلموا أن غاية ما يمكن أن يعطى من السبب في وجود الطبائع وترتب آثارها العجيبة، من جذب المقناطيس، وتورّي المرخ والعفار، وسُمِّية البيش وترياقية الجدوار أمور ثلاثة:

أحدها: الفاعل - وهو تدبير الصانع وجوده وعدله وإعطائه كل شيء بموجب الحكمة والجود ما يليق اعطائه إياه، والصانع أعطى الهيولى التي أبدعها من الصور ما كان يجب في حكمته وجوده على التقسيم والتقسيط، الذي كان يقتضيه تقديره وعدله.

السابقالتالي
2 3 4 5