الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً }

قرأ ابن محيْصِن: " يَدَّبَّرون ": بإدغام التَّاء في الدَّال، والأصْل: يَتَدبرون، وهي مخالفةٌ للسَّوَاد والتَّدْبير والتَّدَبُّر عبارة عن النَّظَر في عَوَاقِب الأمُور وأدْبَارِهَا، ودُبُرُ الشَّيْء آخره، ومنه قوله: إلامَ تدبَّرُوا أعْجَاز أمُورٍ قَدْ ولت صُدُورَها، ويقال في فَصِيح الكَلاَم: لو استَقبلتُ من أمري ما اسْتَدْبَرْت، أي: لو عَرَفْت في صَدْرِي ما عَرَفْتَ [من] عاقِبَتِهِ، لامْتَنَعْت.

فصل: وجه النظم في الآية

ووجه النظم أنه - تعالى - [لمَّا] حكى أنواعَ مكر المُنَافِقِين وكَيْدِهم؛ لأجل عَدَم اعتِقَادِهم صحَّة دَعْوَى النَّبي صلى الله عليه وسلم للرِّسَالَة، فلا جَرَم أمرهم [الله] تعالى بأن يَنْظُروا ويتفكروا في الدَّلائِل [الدَّالَّة] على صِحَّة النُّبوَّة؛ فقال [- تعالى -] { أفلا يتدبرون القرآن } والعلماء قَالُوا: دلالة القُرْآنِ على صِدْق نُبُوَّةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوْجُه:

أحدُها: فصاحَته.

وثانيها: اشْتِمَاله على الإخْبَارِ عن الغُيُوبِ.

والثالث: سلامَتُه عن الاخْتِلاَف، وهاذ هو المذكُور في هَذِهِ الآية، وذكروا في تَفْسِير سَلاَمَتِه عن الاخْتِلاَف ثلاثة أوْجُه:

الأول: قال أبو بَكر الأصَم: معناه أنَّ هؤلاء المُنَافِقِين كانوا يَتواطَئُون في السَِّرِّ على أنْواع كَثِيرةٍ من الكيد والمَكْر، والله - تعالى - [كان] يُطْلِعُ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على تلك الأحْوَال، ويخبره عَنْهَا مُفَصَّلة، فقيل لهم: إن ذلك لو لم يَحْصُل بإخْبَارِ الله - تعالى -، وإلا لما اطَّردَ الصِّدْق فيه، ولظَهَر الاخْتِلاف والتَّفَاوت في قول مُحمَّد - [عليه السلام] -، فلمَّا لم يظهر ذلك عَلِمْنا أنَّ ذلك بإعْلام اللَّه - تعالى -.

الثاني: قال أكثر المُتَكَلِّمين: إن القُرْآن كتاب كَبِير مشتمِلٌ على أنْوَاع كثيرةٍ من العُلُوم، فلو كَان ذَلِك مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه، لوقع فيه أنْواعٌ من الكَلِمَات المُتَنَاقِضَة؛ لأن الكِتَاب الكَبِير لا ينْفَكُّ من ذَلِكَ، ولمّا لم يُوجد فيه ذلك، عَلِمْنَا: أنه لَيْس من عِنْد غَيْر اللَّه؛ قاله ابن عبَّاسٍ.

فإن قيل: أليس أنَّ قوله:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22- 23] كالمناقض لقوله:لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } [الأنعام: 103]، وآيات الجِبْرِ كالمناقِضَةِ لآيات القَدَرِ، وقوله:فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر: 92] كالمناقَضِ لقوله:فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [الرحمن: 39].

فالجواب أنا بَيَنَّا أنه لا مُنَافَاة ولا مُنَاقَضَةَ بَيْن شَيْءٍ مِنْهَا.

الثالث: قال [أبُو] مسلم الأصْفَهَانِي: المراد منه عدم الاخْتِلاف في رُتب الفَصَاحَةِ فيه من أوَّله إلى آخره على نَهْج وَاحدٍ، ومن المَعْلُوم أن الإنْسَان وَإنْ كان في غَايَة البَلاغَة ونهاية الفَصَاحة، إذا كَتَب كِتَاباً طويلاً مُشْتَمِلاً عَلَى المعاني الكثيرة، فلا بُدَّ وأن يقع التَّفَاوُت في كَلاَمه، بحيْث يكون بَعْضُه قريباً مُبَيِّناً وبَعْضُه سَخِيفاً نازلاً.

ولما لم يكُن القُرآن كَذلِك، علمنا أنه مُعْجِزٌ من عِنْد الله - تعالى -.

السابقالتالي
2