الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }

قوله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ }: قد تقدَّم إعرابُ هذا في نحو قوله تعالى:وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَٰوةٍ } [البقرة: 96]، فَأَغَنَى عن إعادته / وقال ابنُ عطية: " اللامُ للابتداءِ " ، وليس بشيء، بل هي لامٌ يُتَلَقَّى بها القسمُ. و " أشدَّ الناس " مفعول أول، و " عداوةً " نصب على التمييز. و " للذين " متعلقٌ بها، قَوِيَتْ باللامِ لَمَّا كانت فرعاً في العمل على الفعل، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء لأنها مبنيةٌ عليها، فهي كقولهِ:
1790-........... ورهبةٌ   عقابَك..............
ويجوزَ أن يكونَ " للذين " صفةً لـ " عداوة " فيتعلَّقَ بمحذوف، و " اليهودَ " مفعولٌ ثانٍ. وقال أبو البقاء: " ويجوُ أن يكونَ اليهود هو الأولَ، و " أشدَّ " هو الثاني، وهذا هو الظاهرُ، إذ المقصودُ أَنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركين بأنَّهم أشدٌّ الناسِ عداوة للمؤمنين، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناسِ مودةً لهم، وليس المرادُ أَنْ يخبرَ عن أشدِّ الناس وأقربهم بكونِهم من اليهودِ والنصارى. فإن قيل: متى استويا تعريفاً وتنكيراً وَجَب تقديمُ المفعولِ الأولِ وتأخيرُ الثاني كما يجب في المبتدأ والخبرِ وهذا من ذاك. فالجوابُ: أنه إنما يجب ذلك حيث أَلْبس، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك جاز التقديمُ والتأخيرُ ومنه قوله:
1791- بَنُونا بنو أبنائِنا، وبناتُنا   بنوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ
فـ " بنوا أبناء " هو المبتدأ، و " بَنُونا " خبره، لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء، ومثلُه قول الآخر:
1792- قبيلةٌ ألأَمُ الأحياءِ أكرمُها   وأَغْدُر الناسِ بالجيرانِ وافِيها
أكرمُها " هو المبتدأُ، و " ألأمُ الأحياءِ " خبرُه، وكذا " وافيها " مبتدأ و " أغدرُ الناس " خبره، والمعنى على هذا، والآيةُ من هذه القبيلِ فيما ذَكَرْتُ لك.

وقوله: { وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } عطفٌ على اليهود، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها. و " ذلك بأنَّ " مبتدأٌ وخبرُ، وتقدم تقريره، و " منهم " خبر " أنَّ " و " قسيسين " اسمها، وأن واسمُها وخبرها في محل جَرِّ بالباء، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر " ذلك " والقسيسين جمع " قِسِّيس " على فِعِّيل، وهو مثالُ مبالَغَة كـ " صِدِّيق " وقد تقدَّم وهو هنا رئيسُ النصارى وعابُدهم، وأصلُه من تَقَسِّسَ الشيءَ إذا تَتَّبَعَه وطَلَبه بالليل، يقال: " تقسَّسْتُ أصواتَهم " أي: تَتَبَّعْتُها بالليلِ، ويُقال لرئيس النصارى: قِسّ وقِسّيس، وللدليلِ بالليل: قَسْقَاس وقَسْقَس، قاله الراغب، وقال غيرُه: القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ، ومنه سُمِّي عالُم النصارى لتتبُّعِه العلمَ. قال رؤبه بن العجاج:
1793- أَصْبَحْنَ عن قَسِّ الأذى غَوافِلا   يَمْشِين هَوْناً خُرُداً بَهالِلا

السابقالتالي
2 3