الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } * { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } * { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ }

وفيه مسائل: المسألة الأولى: المراد من كلمة: { لَوْلاَ } معنى هلا من كلمات التحضيض وهي أربع كلمات: لولا، ولوما، وهلا، وألا ويمكن أن يقال: أصل الكلمات لم لا، على السؤال كما يقول القائل: إن كنت صادقاً فلم لا يظهر صدقك، ثم إنما قلنا: الأصل لم لا لكونه استفهاماً أشبه قولنا: هلا، ثم إن الاستفهام تارة يكون عن وجود شيء وأخرى عن سبب وجوده، فيقال: هل جاء زيد ولم جاء، والاستفهام بهل قبل الاستفهام بلم، ثم إن الاستفهام قد يستعمل للإنكار وهو كثير، ومنه قوله تعالى ههنا:أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } [الواقعة: 81] وقوله:أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ } [الصافات: 125] وقوله تعالى:أَءِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ } [الصافات: 86] ونظائرها كثيرة، وقد ذكرنا لك الحكمة فيه، وهي أن النافي والناهي لا يأمر أن يكذب المخاطب فعرض بالنفي لئلا يحتاج إلى بيان النفي، إذا ثبت هذا فالاستفهام «بهل» لإنكار الفعل، والاستفهام «بلم» لإنكار سببه، وبيان ذلك أن من قال: لم فعلت كذا، يشير إلى أنه لا سبب للفعل، ويقول: كان الفعل وقع من غير سبب الوقوع، وهو غير جائز، وإذا قال: هل فعلت، ينكر نفس الفعل لا الفعل من غير سبب، وكأنه في الأول يقول: لو وجد للفعل سبب لكان فعله أليق، وفي الثاني يقول: الفعل غير لائق ولو وجد له سبب. المسألة الثانية: إن كل واحد منهما يقع في صدر الكلام، ويستدعي كلاماً مركباً من كلامين في الأصل، أما في «هل» فلأن أصلها أنك تستعملها في جملتين، فتقول: هل جاء زيد أو ما جاء، لكنك ربما تحذف أحديهما، وأما في لو فإنك تقول: لو كان كذا لكان كذا، وربما تحذف الجزاء كما ذكرنا في قوله تعالى:لَّوْ تَعْلَمُونَ } [الواقعة: 76] لأنه يشير بلو إلى أن المنفي له دليل، فإذا قال القائل: لو كنتم تعلمون، وقيل له لم لا يعلمون، قال: إنهم لو يعلمون لفعلوا كذا، فدليله مستحضر إن طولب به بينه وإذا ثبت أن النفي بلو، والنفي بهل، أبلغ من النفي بلا، والنفي بقوله: لم، وإن كان بينهما اشتراك معنى ولفظاً وحكماً وصارت كلمات التحضيض وهي: لو ما، ولولا، وهلا وألا، كما تقول: لم لا فإذن قول القائل: هل تفعل وأنت عنه مستغن، كقوله: لم تفعل وهو قبي، وقوله: وهلا تفعل وأنت إليه محتاج، وألا تفعل وأنت إليه محتاج، وقوله: لولا، ولوما، كقوله: لم لا تفعل، ولم لا فعلت، فقد وجد في ألا زيادة نص، لأن نقل اللفظ لا يخلو من نص، كما أن المعنى صار فيه زيادة ما، على ما في الأصل كما بيناه، وقوله تعالى: { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } أي لم لا يقولون عند الموت وهو وقت ظهور الأمور وزمان اتفاق الكلمات، ولو كان ما يقولونه حقاً ظاهراً كما يزعمون لكان الواجب أن يشركوا عند النزع، وهذا إشارة إلى أن كل أحد يؤمن عند الموت لكن لم يقبل إيمان من لم يؤمن قبله، فإن قيل: ما سمع منهم الاعتراف وقت النزع بل يقولون: نحن نكذب الرسل أيضاً وقت بلوغ النفس إلى الحلقوم ونموت عليه؟ فنقول: هذه الآية بعينها إشارة وبشارة، أما الإشارة فإلى الكفار، وأما البشارة فللرسل، أما الإشارة وهي أن الله تعالى ذكر للكفار حالة لا يمكنهم إنكارها وهي حالة الموت فإنهم وإن كفروا بالحشر وهو الحياة بعد الموت لكنهم لم ينكروا الموت، وهو أظهر من كل ما هو من مثله فلا يشكون في حالة النزع، ولا يشكون في أن في ذلك الوقت لا يبقى لهم لسان ينطق، ولا إنكار بعمل فتفوتهم قوة الاكتساب لإيمانهم ولا يمكنهم الإتيان بما يجب فيكون ذلك حثاً لهم على تجديد النظر في طلب الحق قبل تلك الحالة، وأما البشارة فلأن الرسل لما كذبوا وكذب مرسلهم صعب عليهم، فبشروا بأن المكذبين سيرجعون عما يقولون، ثم هو إن كان قبل النزع فذلك مقبول وإلا فعند الموت وهو غير نافع، والضمير في { بَلَغَتِ } للنفس أو الحياة أو الروح، وقوله: { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } تأكيد لبيان الحق أي في ذلك الوقت تصير الأمور مرئية مشاهدة ينظر إليها كل من بلغ إلى تلك الحالة، فإن كان ما ذكرتم حقاً كان ينبغي أن يكون في ذلك الوقت، وقد ذكرنا التحقيق في { حِينَئِذٍ } في قوله:

السابقالتالي
2