الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }

تفنن الخطاب هنا فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة، إذ عبر هنا عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف منزلة السلف كما تقدم، لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه. والقول في { لا تسفكون } كالقول فيلا تعبدون إلا الله } البقرة 83 والسفك الصب. وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل { تسفكون } اقتضت أن مفعول { تسفكون } هو دماء السافكين وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه، وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالىفإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } النور 61 أي فليسلم بعضكم على بعض. فوجه إضافة الدماء إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر فيها مجموع الناس، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أومفعولية أو إضافة أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع وهذا كثير في استعمال القرآن ونكتته الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية وأنها راجعة إلى شيء واحد وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة، ومثله قوله تعالىلا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } البقرة 188 ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي
قومي هم قتلوا أُميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لأعفون جللا ولئن سطوت لأوهنن عظمي   
يريد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضرَّ بنفسه وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية وسماه اللف في القول، أي الإجمال المراد به التوزيع، وذهب صاحب «الكشاف» إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في قوله { دماءكم } و { أنفسكم }. وقيل إن المعنى لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم، وهذا مبني على المجاز التبعي في { تفسكون } و { تخرجون } بعلاقة التسبب. وأشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلٰهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليه السلام من قوله «لا تقتل، لا تشته بيت قريبك» فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب.

السابقالتالي
2 3