قوله - تعالى - { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىٰ وَهَارُونَ } الآية. قرأ مجاهد، وابن جبير، والأعمش: " إنَّ هذا لساحِرٌ " اسم فاعل، والإشارةُ بـ " هَذَا " حينئذٍ إلى موسى، أشير إليه لتقدم ذكره، وفي قراءةِ الجماعةِ، المشارُ إليه الشَّيءُ الذي جاء به موسى، من قلب العصا حيَّة، وإخراج يده بيضاء كالشمس، ويجوز أن يشار بـ " هذا " في قراءة ابن جبير: إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً؛ حيث وصفُوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ؛ كقولهم: " شِعْرٌ شَاعِرٌ " ، و " جَدَّ جَدُّهُ ". فإن قيل: إنَّ القوم لمَّا قالوا: { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } ، فكيف حكى موسى عنهم أنَّهُم قالوا: " أسِحْرٌ هذا " على سبيل الاستفهام؟. فالجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ معمول " أتقولون ": الجملة من قوله: " أسِحْرٌ هذا " إلى آخره، كأنهم قالوا: أجِئْتُمَا بالسِّحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح السَّاحِرُون؛ كقول موسى - عليه الصلاة والسلام - للسحرة: { مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ } [يونس:81]. والثاني: أنَّ معمول القول محذوفٌ، مدلولٌ عليه بما تقدم ذكرهُ، وهو { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ }. ومعمولُ القول يحذف للدَّلالةِ عليه كثيراً، كما يحذف القول كثيراً، ويكون تقدير الآية: إن موسى - عليه الصلاة والسلام - قال لهم: { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } ما تقولون، ثم حذف منه مفعول " أتقولون " لدلالة الحالِ عليه، ثم قال: أسِحْرٌ هذا وهو استفهامٌ على سبيل الإنكار، ثم احتجَّ على أنَّه ليس بسحرٍ، بقوله: { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ }؛ ومثلُ الآية في حذف المقول قولُ الشاعر: [الطويل]
2922- لنَحْنُ الألَى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ
بِرُؤيتنَا قبْلَ اهتِمَامٍ بكُمْ رُعْبَا
وفي كتاب سيبويه: " متَى رَأيتَ أو قُلْتَ زيداً مُنْطلقاً " على إعمال الأول، وحذف معمول القول، ويجوز إعمالُ القول بمعنى الحكاية به، فيقال: " متى رايت أو قلت زيد مُنطلقٌ " وقيل: القول في الآية بمعنى: العَيْب والطَّعْن، والمعنى: أتَعِيبُونَ الحقَّ وتطعنُونَ فيه، وكان من حقِّكم تعظيمُه، والإذعانُ له، من قولهم: " فلان يخافُ القالة " و " بين الناس تقاولٌ " إذا قال بعضهم لبعضٍ ما يسوؤه، ونحو القولِ الذَِّكرُ في قوله:{ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } [الأنبياء:60] وكلُّ هذا مُلخّص من كلام الزمخشريِّ. قوله: " قَالُوا " يعني: فرعون وقومه، " أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا " اللاَّمُ متعلقةٌ بالمجيء، أي: أجِئْتَ لهذا الغرضِ، أنكروا عليه مجيئهُ لهذه العلَّة، واللَّفتُ: الليُّ والصَّرْفُ، لفته عن كذا، أي: صرفه ولواه عنه، وقال الأزهري: " لفَتَ الشَّيء وفتلهُ ": لواه، وهذا من المقلوب. قال شهاب الدِّين: " ولا يُدَّعى فيه قلبٌ، حتى يرجع أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعَلُوا جذبَ وجبذَ، وحَمِدَ ومَدَحَ من هذا القبيل لتساويهما، ومطاوعُ لَفَتَ: التفَت، وقيل: انْفَتَلَ، وكأنَّهُم استغْنَوا بمطاوع " فَتَل " عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لفُوت، أي: تَلْتفتُ لولدها عن زوجها، إذا كان الولد لغيره، واللَّفيتةُ: ما يغلظُ من القصيدة " والمعنى: أنَّهم قالوا: لا نترك الذي نحن عليه؛ لأنَّا وجدنا أباءنا عليه، فتمسكُوا بالتقليد، ودفعُوا الحُجَّة الظاهرة بمجرد الإصرار.