الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ } قال القاشانيّ: أي: الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي: ليس من عالم الخلق حتى يمكن تعريفه للظاهريين البدنيين، الذين يتجاوز إدراكهم الحس والمحسوس، بالتشبيه ببعض ما شعروا به، والتوصيف. بل من عالم الأمر، أي: الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولي، والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين. فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون، لقصُور إدراككم وعلمكم عنه { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } هو علم المحسوسات. وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علم الله تعالى والراسخين في العلم - هذا ما قاله القاشاني - وحاصل الجواب عليه: أن الروح موجود محدَث بأمره تعالى بلا مادة، وتولد من أصل كأعضاء الجسد، حتى يمكن تعريفه ببعض مبادئه، بل هو من عالم الأمر لا من عالم الخلق. فيكون الاقتصار في الجواب على قوله: { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } كما اقتصر موسى في جواب قول فرعون:وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 23] على قوله:رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الشعراء: 24] إعلاماً بأن إدراكه بالكُنْهِ على ما هو عليه لا يعلمه إلا الله تعالى. وأنه شيء بمفارقته يموت الإنسان وبملازمته له يبقى. كما أومأ إليه قوله تعالى: { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } أي: علماً قليلاً تستفيدونه من طرق الحواس. وهو هذا القدر الإجماليّ.

قال الشهاب. والسؤال - على هذا - عن حقيقتها. والجواب إجماليّ بأنها من المبدعات من غير مادة، ولذا قيل: إنه من الأسلوب الحكيم. كما في قوله:يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ } [البقرة: 189] إشارة إلى أن حقيقتها لا تعلم، وإنما يعلم منها هذا المقدار. فالمراد بـ (الأمر) على هذا التفسير (قول كن) ولذا قالوا لمثله: عالم الأمر. انتهى.

قال أبو السعود عليه الرحمة: وليس هذا من قبيل قوله سبحانه:إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] فإن ذلك عبارة عن سرعة التكوين. سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق. بل إنه من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكوينيّ من غير تحصل من مادة. وحكى، عليه الرحمة، قولاً آخر وهو: أن الأمر بمعنى الشأن. قال: والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجاديّ، لاشتراك الكل فيه. وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى. كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه. أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر. وعليه، فـ (من) بيانية أو تبعيضية. ويكون نهياً لهم عن السؤال عنها، وتركا للبيان. وهذا رأي كثيرين. أمسكوا عن الخوض فيها، وقالوا: إنها شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع أحدا من خلقه. فلا يجوز البحث عنها بأكثر من أنها شيء موجود، بل غلا بعضهم وقال: إن الإفاضة في بحث الروح بدعة في الدين.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9