الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } * { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ }

استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدّم من الثناء على القسّيسين والرهبان. وإذ قد كان من سنّتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوّج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيّبات كالتدهُّن وترفيه الحالة وحُسن اللباس، نبّه الله المؤمنين على أنّ الثناء على الرهبان والقسّيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطّراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانيّة. وصادف أن كانَ بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طمَحت نفوسهم إلى التقلّل من التعلّق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيِّد الزاهدين صلى الله عليه وسلم روى الطبري والواحدي " أنّ نفَراً تنافسوا في الزهد. فقال أحدُهم أمّا أنا فأقوم الليل لا أنام، وقال الآخر أمَّا أنا فأصوم النهار، وقال آخر أمّا أنا فلا آتي النساء، فبلغ خبرُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم، فقال «ألَمْ أنَبَّأ أنَّكم قلتم كذا. قالوا بَلَى يا رسول الله، وما أرَدْنا إلاّ الخَيْر، قال لَكِنِّي أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» " فنزلت هذه الآية. ومعنى هذا في «صحيحي البخاري ومسلم» عن أنس بن مالك وليس فيه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية. ورُوي أنّ ناساً منهم، وهم أبو بكر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عُمر، وأبو ذرّ، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقدادُ بن الأسود، وسلْمان الفارسي، ومعقل بن مُقَرّن اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يرفُضوا أشغال الدنيا، ويتركوا النساء ويترهّبوا. فقام رسول الله فغلّظ فيهم المقالة، ثم قال " إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شَدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع " فنزلت فيهم هذه الآية.. وهذا الخبر يقتضي أنّ هذا الاجتماع كان في أول مدّة الهجرة لأنّ عثمان بن مظعون لم يكن له دار بالمدينة وأسكنه النبي صلى الله عليه وسلم في دار أمّ العلاء الأنصارية التي قيل إنّها زوجة زيد بن ثابت، وتوفّي عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة. وفي رواية أنّ ناساً قالوا إنّ النصارى قد حرّموا على أنفسهم فنحن نحرّم على أنفسنا بعض الطيّبات فحرّم بعضهم على نفسه أكل اللحم، وبعضهم النوم، وبعضهم النساء وأنّهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه. فنزلت هذه الآية. وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبالغة في الزهد واردة في الصحيح، مثل حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي. قال قال لي رسول الله " ألم أخْبَر أنّك تقوم الليل وتصوم النهارَ، قلت إنّي أفعلُ ذلك. قال فإنّك إذا فعلتَ هجَمت عينُك ونَفِهَتْ نَفْسك. وإنّ لنفسك عليك حقاً ولأهلِك عليك حقّاً، فصم وأفطر وقُم ونَم "

السابقالتالي
2 3 4