الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

وقُرئ: " لرؤف ".

لمّا حث سبحانه المكلفين على المعرفة بالله وملكوته من جهة ما ركّب فيهم من فطرة العقول، وقرع أسماعهم من دعوة الرسول، أخبر بأنه لزمت دعوته وقبولكم إياها لما أيده الله به من المعجزات البينة التي أظهرها على يديه، أو الآيات الفرقانية خاصّة، ليخرجكم الله سبحانه بواسطة تلك الآيات من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والمعرفة.

أو ليخرجكم الرسول بدعوته، أو ليخرجكم المنزل بما فيه من الحجج المنيرة والبراهين الواضحة.

وإن الله بكم لرؤوف رحيم -، حيث بعث الرسول ونصب الأدلة، وهذا يدل على كمال الرأفة والرحمة، وللاشعار به اقترن الكلام بوجوه من التأكيد: منها الجمع بين لفظين مترادفين، وقيل: " الرأفة ": النعمة على المضرور، و " الرحمة " النعمة على المحتاج.

قيل: في هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبرة، فإنه بيّن أن الغرض في إنزال القرآن الإيمان به.

اقول: تحقيق هذا المقام يحتاج إلى طور آخر من اقتناص المعارف غير ما أكبّ عليه علماء الكلام، لكن يجب على كل عاقل متفكر، أن يفرّق بين الغاية الأخيرة والمتوسطة، وكذا بين الغاية بمعنى الداعي وما يسمى بالضروري الذي يلزم الفعل من غير أن يكون داعياً إليه، كقوله تعالى:فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص:8].

مكاشفة

إعلم أن الله تعالى، كما يُنزل على أشرف رسله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) آياتٍ بينات ليُخرج الناس من ظلمة الغباوة والغواية إلى نور الدراية والهداية، فما من عبد من عباده المهتدين، إلاّ ويأتيه من قِبَله تعالى إشارات وتنبيهات، وتنزل منه على قلبه أنوار متتاليات ليخرج بها من ظلمة الحُجُب الدنيوية إلى نور المعارف الأخروية، ولكن الناس أكثرهم غافلون عنها لاشتغالهم بما يلهيهم عن ذكر الله، ويُنسيهم امر الآخرة، فلا يبعد أن تكون هذه الآية بياناً لأخذ الميثاق المذكور في الآية المتقدمة، فإن الله سبحانه خلق عباده على فطرة التجرد والنقاء عن علائق الأجرام، والتقدس والصفاء عن كدورات الآثام، والتهيؤ لقبول دعوة الحق والإلهام واستعداد الترقي بواسطة العلم والعمل إلى أرفع المنازل في دار السلام، ثم إذا أنشأهم في هذه الحياة الدنيا، ربّاهم واكملهم وأعطاهم العقل والتميز، وبعث إليهم الرسول مؤيداً بالمعجزات، فلا يزال ينزل على قلوبهم آيات بينات من أنوار معرفته، ويفتح عليهم أبواباً من فنون رحمته وهدايته، ليهديهم إلى صراط مستقيم، ويخرجهم من ظلمات الجحيم إلى أنوار النعيم.

وإنما ينسي الناس ذكر مواثيقهم الجِبِلّية مع الحق، وعهودهم الذاتية مع سكّان ملكوته، وسائر ما كانوا مفطورين عليه بطهارة ذواتهم المخمرة بيد القدرة أربعين صباحاً، واستعدادهم للمعرفة واليقين، تعلقاتُهم بمشاغل الكون لضرورة حياتهم الدنيوية، ويشغلهم عمّا يرد على قلوبهم من أنوار المعارف باطناً وظاهراً، ويلهيهم عن ألطاف الحق الواصلة إليهم داخلاً وخارجاً، ارتكابُهم الخطيئات، واقترافهم السيئات المبعدة لهم عن جوار الله وقربه، لان المعاصي تعمي أبصارهم، وتصمّ أسماعهم عن إدراك أنوار الحق وإلهاماته، فأعرضوا بها عن ذكر الله وسماع آياته البينات، واشتغلوا بما يلهيهم به الشيطان عما يلهمهم به الرحمان، لقوله تعالى:

السابقالتالي
2 3