الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ٱلنَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّٰتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لأَيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

القول في صيغة القصر من قوله { وهو الذي أنزل } إلخ كالقول في نظيره السّابق. ومِن في قوله { مِن السّماء } ابتدائية لأنّ ماء المطر يتكوّن في طبقات الجوّ العُليا الزمهريرية عند تصاعد البخار الأرضي إليها فيصير البخار كثيفاً وهو السّحاب ثمّ يستحيل ماء. فالسّماء اسم لأعلى طبقات الجوّ حيث تتكوّن الأمطار. وتقدّم في قوله تعالى { أو كَصيّب من السّماء } في سورة البقرة. وعُدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير التكلّم في قوله { فأخرجْنا } على طريقة الإلتفات. والباء للسّببيّة جَعل الله الماء سبباً لخروج النّبات، والضّمير المجرور بالباء عائد إلى الماء. والنّباتُ اسم لما يَنبت، وهو اسم مصدر نَبَتَ، سمّي به النّابت على طريقة المجاز الّذي صار حقيقة شائعة فصار النَّبات اسماً مشتركاً مع المصدر. و { شيء } مراد به صِنف من النّبات بقرينة إضافة { نباتَ } إليه. والمعنى فأخرجنا بالماء ما ينبت من أصناف النّبت. فإنّ النبت جنس له أنواع كثيرة فمنه زرع وهو ما له ساق ليّنة كالقَصَب ومنه شجر وهو ما له ساق غليظة كالنّخل، والعنب ومنه نَجْم وأبّ وهو ما ينبت لاصِقاً بالتّراب، وهذا التّعميم يشير إلى أنّها مختلفة الصّفات والثّمرات والطبائع والخصوصيات والمذاق، وهي كلّها نابتة من ماء السّماء الّذي هو واحد، وذلك آية على عظم القدرة، قال تعالىتُسقَى بماء واحد ونُفضّل بعضَها على بعضٍ في الأكل } الرعد 4 وهو تنبيه للنّاس ليعتبروا بدقائق ما أودعه الله فيها من مختلف القوى الّتي سبّبتْ اختلاف أحوالها. والفاء في قوله { فأخرجنا به نبات كلّ شيء } فاء التّفريع. وقوله { فأخرجنا منه خضراً } تفصيل لمضمون جملة { فأخرجْنا به نبات كلّ شيء } ، فالفاء للتّفصيل، ومن ابتدائية أو تبعيضيّة، والضّمير المجرور بها عائد إلى النّبات، أي فكان من النبت خضر ونَخْل وجنّات وشجر، وهذا تقسيم الجنس إلى أنواعه. والخَضِر الشّيء الّذي لونه أخضر، يقال أخْضر وخَضِر كما يقال أعور وعَور، ويطلق الخضر اسماً للنّبت الرّطب الّذي ليس بشجر كالقصيل والقضب. وفي الحديث " وإنّ ممّا يُنبت الرّبيعُ لَمَا يَقْتُل حَبَطا أو يُلِمّ إلاّ آكِلَةَ الخَضِر أكلتْ حتّى إذا امتَدّتْ خاصرتاها " الحديث. وهذا هو المراد هنا لقوله في وصفه { نخرج منه حبّاً متراكباً } ، فإنّ الحبّ يخرج من النّبت الرّطب. وجملة { نخرج منه } صفة لقوله { خضرا } لأنّه صار اسماً، ومن اتِّصاليّة أو ابتدائيّة، والضّمير المجرور بها عائد إلى { خَضِرا }. والحَبّ هو ثمر النّبات، كالبُرّ والشّعير والزّراريع كلّها. والمتراكب الملتصق بعضه على بعض في السنبلة، مثل القَمح وغيره، والتّفاعل للمبالغة في ركوب بعضه بعضاً. وجملة { ومن النّخل من طلعها قنوان دانية } عطف على { فأخرجنا منه خضراً }. ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضيّة، وقوله { من النّخل } خبر مقدّم و { قنوان } مبتدأ مؤخّر.

السابقالتالي
2 3 4