الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }

وقوله: { مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } اختلفوا في المكان الذي أسرى به منه، فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن، وروي عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " وقيل أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب. والمراد على هذا القول بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به، وعن ابن عباس الحرم كله مسجد، وهذا قول الأكثرين وقوله: { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } اتفقوا على أن المراد منه بيت المقدس وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام وقوله: { ٱلَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } قيل بالثمار والأزهار، وقيل بسبب أنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة. واعلم أن كلمة { إِلَىٰ } لانتهاء الغاية فمدلول قوله: { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } أنه وصل إلى حد ذلك المسجد فأما أنه دخل ذلك المسجد أم لا فليس في اللفظ دلالة عليه، وقوله: { لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـٰتِنَا } يعني ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى. فإن قالوا: قوله: { لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـٰتِنَا } يدل على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات، لأن كلمة { مِنْ } تفيد التبعيض، وقال في حق إبراهيم:وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام: 75] فيلزم أن يكون معراج إبراهيم عليه السلام أفضل من معراج محمد صلى الله عليه وسلم. قلنا: الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض، والذي رآه محمد صلى الله عليه وسلم بعض آيات الله تعالى، ولا شك أن آيات الله أفضل. ثم قال: { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي أن الذي أسرى بعبده هو السميع لأقوال محمد، البصير بأفعاله، العالم بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الرياء، مقرونة بالصدق والصفاء، فلهذا السبب خصه الله تعالى بهذه الكرامات، وقيل: المراد سميع لما يقولون للرسول في هذا الأمر، بصير بما يعملون في هذه الواقعة. المسألة الثانية: اختلف في كيفية ذلك الإسراء فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أسرى بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقلون قالوا: إنه ما أسري إلا بروحه حكي عن محمد بن جرير الطبري في «تفسيره» عن حذيفة أنه قال ذلك رؤيا. وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أسري بروحه، وحكي هذا القول أيضاً عن عائشة رضي الله عنها، وعن معاوية رضي الله عنه. واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين: أحدهما: في إثبات الجواز العقلي. الثاني: في الوقوع. أما المقام الأول: وهو إثبات الجواز العقلي، فنقول: الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها والله تعالى قادر على جميع الممكنات، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع، فنفتقر ههنا إلى بيان مقدمتين: المقدمة الأولى: في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ويدل عليه وجوه: الوجه الأول: أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع، فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع وبتقدير أن يقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان، فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه، وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان، والله أعلم.

PreviousNext
1 3 4 5 6 7