الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }

قوله: { سَأَلَ }: قرأ نافع وابنُ عامر بألفٍ مَحْضَةٍ. والباقون بهمزةٍ مُحَقَّقةٍ، وهي الأصلُ، وهي اللغةُ الفاشيةُ. ثم لك في " سأل " وجهان أحدُهما: أنْ يكونَ قد ضُمِّنَ معنى دعا؛ فلذلك تعدَّى بالباء، كما تقول: دعوت بكذا. والمعنى: دعا داعٍ بعذابٍ. والثاني: أَنْ يكونَ على أصلِه. والباءُ بمعنى عن، كقوله:
4326ـ فإن تَسْألوني بالنساء.........   .....................
" فأسْأل بن خبيرا " ، وقد تقدَّم تحقيقُه. والأولُ أَوْلَى؛ لأن التجوُّزَ في الفعل أَوْلَى منه في الحرف لقوتِه.

وأمَّا القراءةُ بالألفِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها بمعنى قراءةِ الهمزة، وإنما خُفِّفَتْ بقَلْبِها ألفاً، وليس بقياسِ تخفيفِ مثِلها، بل قياسُ تخفيفِها جَعْلُها بينَ بينَ. والباءُ على هذا الوجهِ كما في الوجهِ الذي تقدَّم. الثاني: أنها مِنْ سال يَسال مثلُ خاف يَخاف. وعينُ الكلمةِ واوٌ. قال الزمخشري: " وهي لغةُ قريش يقولون: سِلْتَ تَسالُ، وهما يتسايلان ". قال الشيخ: " وينبغي أَنْ يُتَثَبَّتَ في قوله: " إنها لغةُ قريشٍ، لأنَّ ما جاء في القرآنِ من باب السؤالِ هو مهموزٌ، أو أصلُه الهمزُ، كقراءةِ مَنْ قرأ " وسَلُوا اللهُ مِنْ فضلِه " [النساء: 32] إذ لا جائزٌ أَنْ يكونَ مِنْ " سال " التي عينُها واوٌ، إذ كان يكون ذلك " وسَالوا اللهَ " مثلَ " خافوا " ، فيَبْعُدُ أن يجيءَ ذلك كلُّه على لغةِ غيرِ قريشٍ، وهم الذين نَزَل القرآنُ بلغتِهم إلاَّ يسيراً، فيه لغةُ غيرِهم. ثم في كلامِ الزمخشريِّ " وهما يتسايَلان " بالياء، وهو وهمٌ من النسَّاخ، إنما الصوابُ: يتساوَلان بالواو، لأنه صَرَّحَ أولاً أنه من السُوال يعني بالواو الصريحةِ، وقد حكى أبو زيدٍ عن العربِ: " هما يتساولان ". الثالث: أنَّها مِنْ السَّيَلان. والمعنى: سالَ وادٍ في جهنم بعذابٍ، فالعينُ ياءٌ، ويؤيِّدُه قراءةُ ابن عباس " سالَ سَيْلٌ ". قال الزمخشريُّ: " والسَّيْلُ مصدرٌ في معنى السائلِ كالغَوْر بمعنى الغائر. والمعنى: اندفع عليهم وادي عذابٍ " انتهى. والظاهرُ الوجهُ الأولُ لثبوتِ ذلك لغةً مشهورةً قال:
4327ـ سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً   ضَلَّتْ هُذَيلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ
وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله " سال سالٌ " مثلَ " مال " وتخريجُها: أنَّ الأصلَ " سائلٌ " فحُذِفَتْ عينُ الكلمةِ وهي الهمزةُ، واللامُ محلُّ الإِعرابِ وهذا كما قيل: " هذا شاكٌ " في شائِكِ السِّلاح وقد تقدَّم الكلامُ على مادةِ السؤالِ في أول البقرة،/ فعليك باعتبارِه.

والباءُ تتعلَّق بـ " سال " من السَّيَلان تعلُّقَها بـ " سال الماءُ بزيدٍ ". وجَعَلَ بعضُهم الباءَ متعلقةً بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال، كأنه قيل: ما سؤالُهم؟ فقيل: سؤالُهم بعذابٍ، كذا حكاهُ الشيخ عن الإِمام فخر الدين، ولم يَعْتَرِضْه. وهذا عَجَبٌ؛ فإنَّ قولَه أولاً " إنه متعلِّقٌ بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال " يُنافي تقديرَه بقولِه: " سؤالُهم بعذاب "؛ لأنَّ الباءَ في هذا التركيبِ المقدَّرِ تتعلَّق بمحذوفٍ لأنها خبرُ المبتدأ، لا بالسؤال.

وقال الزمخشري: " وعن قتادةَ: سأل سائلٌ عن عذابِ الله بمَنْ يَنْزِلُ وعلى مَنْ يقعُ؟ فَنَزَلَتْ، و " سأَل " على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتمَّ ".