الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ }

استفهام تقريري وقد بيّنّا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثيراً ما يكون على نفي المقرَّر بإثباته للثقة بأن المقرَّر لا يسعه إلا إثبات المنفي وانظر عند قوله تعالىألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } في سورة البقرة 243. والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته. وعليه فالتقرير مستعمل مجازاً في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصاً للنبيء صلى الله عليه وسلم فيكون من باب قولهلا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } البلد 1، 2، وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم إذ لم يزالوا يعبدون غيره. والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه قوله { ربك }. فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالىألم يجدك يتيماً فآوى } الضحى 6 الآيات وقولهلا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } البلد 1، 2 على أحد الوجوه المتقدمة. فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه. وقال أبو صالح رأيت في بيت أم هاني بنتِ أبي طالب نحواً من قفيزين من تلك الحجارة سُوداً مخططة بحمرة. وقال عتاب بن أسِيدْ أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مُقْعَدين يستطعمان الناس. وقالت عائشة لقد رأيْتُ قائد الفيل وسائقه أعمَيين يستطعمان الناس. وفعل الرؤية معلق بالاستفهام. ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسبة لمن تجاوز سنهُ نيفاً وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلاماً أو فتى مثل أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف. و { كيف } للاستفهام سَدّ مسدّ مفعوليْ أو مفعول { تَر } ، أي لم تر جواب هذا الاستفهام، كما تقول علمتُ هل زيد قائم؟ وهو نصب على الحال من فاعل { تَر }. ويجوز أن يكون { كيف } مجرداً عن معنى الاستفهام مراداً منه مجرد الكيفية فيكون نصباً على المفعول به. وإيثار { كيف } دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل ألم تر ما فعل ربك، أو الذي فعل ربك، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة. وأوثر لفظ { فعل ربك } دون غيره لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالاً كثيرة لا يدل عليها غيره. وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف رب مضافاً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصاً لنبوءته إذ كان ذلك عام مولده. وأصحاب الفيل الحَبشة الذين جاءوا مكة غازين مضمِرين هدم الكعبة انتقاماً من العرب من أجل ما فعله أحد بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج.

السابقالتالي
2 3