الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

افتتاحها بـــ { الحمد لله } مؤذن بأن صفات من عظمة الله ستذكر فيها، وإجراء صفات الأفعال على اسم الجلالة مِن خلقِهِ السماوات والأرض وأفضلِ ما فيها من الملائكة والمرسلين مؤذن بأن السورة جاءت لإِثبات التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. وإيذان { الحمد لله } باستحقاق الله إياه دون غيره تقدم في أول سورة الفاتحة. والفاطر فاعل الفَطْر، وهو الخلق، وفيه معنى التكون سريعاً لأنه مشتق من الفطر وهو الشق، ومنهتكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } الشورى 5إذا السماء انفطرت } الانفطار 1. وعن ابن عباس «كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض أي لعدم جريان هذا اللفظ بينهم في زمانه حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما أنا فطرتها، أي أنا ابتدأتُها. وأحسب أن وصف الله بــــ { فاطر السماوات والأرض } مما سبق به القرآن، وقد تقدم عند قوله تعالىفاطر السماوات والأرض } في سورة الأنعام 14، وقولهوعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض } في آخر سورة يوسف 101 فضُمَّه إلى ما هنا. وأما { جاعل } فيطلق بمعنى مكوِّن، وبمعنى مُصَيِّر، وعلى الاعتبارين يختلف موقع قوله { رسلاً } بين أن يكون مفعولاً ثانياً لــــ { جاعل } أي جعل الله من الملائكة، أي ليكونوا رسلاً منه تعالى لما يريد أن يفعلوه بقوتهم الذاتية، وبين أن يكون حالاً من { الملائكة } ، أي يجعل من أحوالهم أن يُرسَلوا. ولصلاحية المعنيين أُوثرت مادة الجعل دون أن يعطف على معمول { فاطر }. وتخصيص ذكر الملائكة من بين مخلوقات السماوات والأرض لشرفهم بأنهم سكان السماوات وعظيم خلقهم. وأجري عليهم صفة أنهم رُسل لمناسبة المقصود من إثبات الرسالة، أي جاعلهم رسلاً منه إلى المرسلين من البشر للوحي بما يراد تبليغهم إياه للناس. وقوله { أولي أجنحة } يجوز أن يكون حالاً من { الملائكة } ، فتكون الأجنحة ذاتيةً لهم من مقومات خلقتهم، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في { رسلاً } فيكون خاصة بحالة مَرسوليتهم. و { أجنحة } جمع جَناح بفتح الجيم وهو ما يكون للطائر في موضع اليد للإِنسان فيحتمل أن إثبات الأجنحة للملائكة في هذه الآية وفي بعض الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة، ويحتمل أنه استعارة للقوة التي يخترقون بها الآفاق السماوية صعوداً ونزولاً لا يعلم كنهها إلا الله تعالى. و { مثنى } وأخواتُه كلمات دالّة على معنى التكرير لاسم العدد التي تشتق منه ابتداء من الاثنين بصيغة مَثنى ثم الثلاثة والأربعة بصيغة ثُلاث ورُباع. والأكثر أنهم لا يتجاوزون بهذه الصيغة مادة الأربعة، وقيل يجوز إلى العشرة. والمعنى اثنين اثنين الخ. وتقدم قولهأن تقوموا لله مثنى وفرادى } في سورة سبأ 46. والكلام على { أولي } تقدم. والمعنى أنهم ذوو أجنحة بعضها مصففة جناحين جناحين في الصف، وبعضها ثلاثةً ثلاثة، وبعضها أربعةً أربعةً، وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعداداً كثيرة فلا ينافي هذا ما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود

السابقالتالي
2 3