الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } * { قُمْ فَأَنذِرْ }

نودي النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه في حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة. وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال دثروني دثروني، أو قال زملوني، أو قال زملوني فدثروني، على اختلاف الروايات، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت { يا أيها المدثر }. وقد مضى عند قوله تعالىيا أيها المزمل } المزمل 1 ما في هذا النداء من التكرمة والتلطف. و { المدثر } اسم فاعل من تدثّر، إذا لبس الدِّثَار، فأصله المتدثّر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادَّعى. والدِّثار بكسر الدال الثوب الذي يُلبس فوق الثوب الذي يُلبس مباشِراً للجسد الذي يسمى شعاراً. وفي الحديث " الأنصار شِعَار والناسُ دِثَار " فالوصف بـ { المدثر } حقيقة، وقيل هو مجاز على معنى المدثر بالنبوءة، كما يقال ارتدى بالمجد وتأزَّر به على نحو ما قيل في قوله تعالى { يا أيها المزمل } ، أي يا أيها اللابس خلعة النبوءة ودِثارها. والقيام المأمور به ليس مستعملاً في حقيقته لأن النبي لم يكن حين أوحي إليه بهذا نائماً ولا مضطجعاً ولا هو مأمور بأن ينهض على قدميه وإنما هو مستعمل في الأمر بالمبادرة والإِقبال والتهمُّم بالإِنذار مجازاً أو كناية. وشاع هذا الاستعمال في فعل القيام حتى صار معنى الشروع في العمل من معاني مادة القيام مساوياً للحقيقة وجاء بهذا المعنى في كثير من كلامهم، وعدّ ابن مالك في التسهيل فعل قام من أفعال الشروع، فاستعمال فعل القيام في معنى الشروع قد يَكون كناية عن لازم القيام من العزم والتهمم كما في الآية، قال في «الكشاف» قُم قيام عزم وتصميم. وقد يراد المعنى الصريح مع المعنى الكنائي نحو قول مُرَّة بن مَحْكَانَ التميمي من شعراء الحماسة
يا ربَّةَ البيتِ قُومِي غيرَ صاغرة ضُمّي إليكِ رجال الحي والغُربا   
فإذا اتصلت بفعل القيام الذي هو بهذا المعنى الاستعمال جملةٌ حصل من مجموعهما معنى الشروع في الفعل بجد وأنشدوا قول حسان بن المنذر
على مَا قام يشتمني لئيم كخنزِير تمرَّغ في رماد   
وقول الشاعر، وهو من شواهد النحو وَلم يعرف قائله
فقام يذود الناس عنها بسيفه وقال ألا لا من سبيلٍ إلى هند   
وأفادت فاء { فأنذر } تعقيب إفادة التحفز والشروع بالأمر بإيقاع الإِنذار. ففعل { قم } منزَّل منزلة اللازم، وتفريع { فأنذر } عليه يبين المراد من الأمر بالقيام. والمعنى يا أيها المدثر من الرعب لرؤية مَلَك الوحي لا تخف وأقبل على الإِنذار. والظاهر أن هذه الآية أول ما نزل في الأمر بالدعوة لأن سورة العلق لم تتضمن أمراً بالدعوة، وصدر سورة المزمل تضمن أنه مسبوق بالدعوة لقوله فيهإِنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم } المزمل 15، وقولهوذَرني والمكذبين } المزمل 11. وإنما كان تكذيبهم بعد أن أبلغهم أنه رسول من الله إليهم وابتدىء بالأمر بالإنذار لأن الإنذار يجمع معاني التحذير من فعل شيء لا يليق وعواقبه فالإِنذار حقيق بالتقديم قبل الأمر بمحامد الفعال لأن التخلية مقدمة على التحلية ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن غالب أحوال الناس يومئذٍ محتاجة إلى الإِنذار والتحذير. ومفعول { أنذر } محذوف لإِفادة العُموم، أي أنذر الناس كلهم وهم يومئذٍ جميع الناس ما عدا خديجة رضي الله عنها فإنها آمنت فهي جديرة بالبشارة.