الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }

فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ } رُوي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، [يقال فيه: دقليوس] ويقال فيه دقينوس. وروي أنهم كانوا مطوّقين مسوّرين بالذهب ذوي ذوائب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى. وقيل: كانوا قبل عيسى، والله أعلم. وقال ابن عباس: إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفْسُوس. وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام، وكان بها سبعة أحداث يعبدون الله سرًّا، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلاً، ومرُّوا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئاً فقال الملك: سُدُّوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً. وروى مجاهد عن ابن عباس أيضاً أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين ـ حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم ـ فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له: إنهم قد فارقوا دينك واستخفّوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته، وتوعّدهم على فراق ذلك بالقتل فقالوا له فيما روي: { رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } إلى قوله: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ }. وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك: إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم بل أستأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبّروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلاً، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إني أعرف كهفاً في جبل كذا، كان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا فخرجوا فيما روي يلعبون بالصَّولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم. وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا باللّعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك. وروى وهب بن منبّه أن أول أمرهم إنما كان حواريّ لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فأجّر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة، فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من أهل المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه، واشتهرت خلطتهم به فأتى يوماً إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحواري فانتهى، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغيّ، فدخل فماتا فيه جميعاً، فاتهم ذلك الحواريّ وأصحابه بقتلهما، ففروا جميعاً حتى دخلوا الكهف.

السابقالتالي
2 3 4