الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ }

ولما ذكر هاتين الصفتين، تذكر ما وقع له بهما من الأسباب، فغلب عليه مقام الشهود وازدادت نفسه عن الدنيا عزوفاً، فقال مخاطباً: { رب قد آتيتني } وافتتح بـ " قد " لأن الحال حال توقع السامع لشرح مآل الرؤيا { من الملك } أي بعضه بعد بعدي منه جداً، وهو معنى روحه تمام القدرة { وعلمتني } وقصر دعواه تواضعاً بالإتيان بالجار فقال: { من تأويل الأحاديث } طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك، والله غالب على أمره؛ ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال: { فاطر السماوات والأرض } ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعول على غيره في شيء من الأشياء فقال: { أنت وليِّي } أي الأقرب إليّ باطناً وظاهراً { في الدنيا والآخرة } أي لا ولي لي غيرك، والولي يفعل لمولاه الأصلح والأحسن، فأحسن بي في الآخرة أعظم ما أحسنت بي في الدنيا.

ولما كان توليه لله لا يتم إلا بتولي الله له، أتبعه بما يفيده فقال: { توفني } أي اقبض روحي وافياً تاماً في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني { مسلماً } ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص، حققه بقوله: { وألحقني بالصالحين * } فتوفاه الله كما سأل؛ قالوا: وتخاصم أهل مصر فيه، كلهم يرجو أن يدفن في محلته يرجو بركته، ثم اصطلحوا على أن عملوا له صندوقاً من رخام ودفنوه في وسط النيل، ليفترق الماء على جميع الأرض فتنالها بركته وتخصب كلها على حد سواء، ويكونوا كلهم في الماء سواء.

ذكر ما بقي من القصة عن التوراة:

قال بعدما مضى: فلم يقدر يوسف على الصبر - يعني على ترفق إخوته - فأمر بإخراج جميع من كان عنده، فلم يبق عنده أحد حيث ظهر يوسف لإخوته، فرفع صوته فبكى حتى سمع المصريون فأخبروا في آل فرعون، فقال يوسف لإخوته: أنا أخوكم يوسف، هل أبي باق؟ فلم يقدر إخوته على إجابته لأنهم رهبوه، فقال يوسف لإخوته: ادنوا مني فدنوا فقال لهم: أنا يوسف الذي بعتموني لمن ورد إلى مصر، والآن فلا تحزنوا، ولا يشقن عليكم ذلك، ولا يشتدن عليكم بيعكم إياي إلى ما هنا، لأن الله أرسلني أمامكم لأعد لكم القوت، لأن للجوع مذ أتى سنتين، وستأتي خمس سنين أخر لا يكون فيها زرع ولا حصاد، فأرسلني الرب أمامكم لأصير لكم بقاء في الأرض وأخلصكم وأستنقذكم، لتحيوا وتستبشروا على الأرض، والآن فلستم أنتم الذين بعثتموني إلى هاهنا بل الله أرسلني وجعلني أباً لفرعون وسيداً لجميع أهل بيته، ومسلطاً على جميع أرض مصر، فاصعدوا الآن عجلين عليّ بأبي وقولوا له: هكذا يقول ابنك يوسف: إن الله جعلني سيداً لجميع أهل مصر، فاهبط إليّ ولا تتأخر، وانزل إلى أرض السدير - وفي نسخة: خشان - فكن قريباً مني أنت وبنوك وأهل بيتك وعمتك وبقرك وجميع مالك، فأموّنكم هناك، لأنه قد بقي خمس سنين جوعاً، لئلا تهلك أنت وأهل بيتك وكل مالك، وهذه أعينكم تبصر وعينا أخي بنيامين، إني أكلمكم مشافهة، وأخبروا أبي بجميع كرامتي ووقاري في أرض مصر، وبجميع ما رأيتم، وأسرعوا واهبطوا بأبي إلى ما هاهنا، فاعتنق أخاه بنيامين أيضاً وبكى، وقبل جميع إخوته وبكى، ومن بعد ذلك كلمه إخوته، فبلغ ذلك فرعون وقيل له: إن إخوة يوسف قد أتوه، فسر ذلك فرعون، عبده - وفي نسخة: وجميع قواده - فقال فرعون ليوسف: قل لإخوتك فليفعلوا هكذا، أوقروا دوابكم ميرة، وانطلقوا بها إلى أرض كنعان، وأقبلوا بأبيكم وأهل بيوتاتكم وائتوني فأنحلكم خيرات أرض مصر وخصبها، وكلوا خصب الأرض، وهذا أنت المسلط، فأمر إخوتك أن يفعلوا هذا الفعل، احملوا من أرض مصر عجلاً لنسائكم وحشمكم، وأظعنوا بأبيكم فأقبلوا، ولا تشفقن على أمتعتكم، لأن جميع خيرات مصر وأرضها وخصبها هو لكم، ففعل بنو إسرائيل كما أمر فرعون، ودفع إليهم يوسف عجلاً عن أمر فرعون، وزودهم جميع أزودة الطريق، وخلع على كل أمرىء منهم خلعة، فأما بنيامين فأجازه بثلاثمائة درهم - وفي نسخة: مثقال فضة - وخلع عليه خمس خلع، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك أيضاً وعشرة حمير موقرة من البر والطعام وأزودة لأبيه للطريق وأرسلهم، فانطلقوا، وتقدم إليهم وقال لهم: لا تقع المشاجرة فيما بينكم في الطريق، فظعنوا من مصر فأتوا أرض كنعان إلى يعقوب أبيهم، فأخبروه وقالوا له: إن يوسف بعد في الحياة، وهو المسلط على جميع أرض مصر، ورأى يعقوب العجل الذي بعث يوسف لحمله فاطمأنت نفسه وقال: إن هذا لعظيم عندي، إذ كان ابني يوسف بعد الحياة، أنطلق الآن فأنظر إليه قبل الموت.

السابقالتالي
2 3 4 5 6