الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }

فيه إحدى عشرة مسألة: الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ } روى الدَّارَقُطْنِيّ عن أبي عيّاش الزرقيّ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلّىٰ بنا النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غِرّتهم قال: ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم قال: فنزل جبريل عليه السَّلام بهذه الآية بين الظهر والعصر { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ }. وذكر الحديث. وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالىٰ. وهذا كان سبب إسلام خالد رضي الله عنه. وقد ٱتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد. وبيّن الرب تبارك وتعالىٰ أن الصَّلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدوّ، ولكن فيها رُخَصٌ على ما تقدم في «البقرة» وهذه السورة، بيانهُ من اختلاف العلماء. وهذه الآية خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يتناول الأُمراء بعده إلى يوم القيامة، ومثله قوله تعالىٰ:خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [التوبة: 103] هذا قول كافة العلماء. وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن عُلَيَّة فقالا: لا نصلّي صلاة الخوف بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن الخطاب كان خاصاً له بقوله تعالىٰ: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في ذلك، وكلهم كان يحب أن يأتمّ به ويصلّي خلفه، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه، والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب فلذلك يصلّي الإمام بفريق ويأمر من يصلّي بالفريق الآخر، وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا. وقال الجمهور: إنا قد أمرنا باتباعه والتأسِّي به في غير ما آية وغير حديث، فقال تعالىٰ:فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } [النور: 63] وقال صلى الله عليه وسلم: " صلّوا كما رأيتموني أُصلّي " فلزم اتباعه مطلقاً حتى يدلّ دليل واضح على الخصوص ولو كان ما ذكروه دليلاً على الخصوص للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ كان يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ٱطّرحوا توهّم الخصوص في هذه الصَّلاة وعَدَّوْه إلى غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد قال تعالىٰ:وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [الأنعام: 68] وهذا خطاب له، وأمّته داخلة فيه، ومثله كثير. وقال تعالىٰ: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وذلك لا يوجب الاقتصار عليه وحده، وأن مَن بعده يقوم في ذلك مقامه فكذلك في قوله: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ }.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8