الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }

قوله تعالى: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } بيّن سبحانه أنه منزه عن سِمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة. فقال الزجاج: أي لا يبلغ كُنْه حقيقته كما تقول: أدركت كذا وكذا لأنه قد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. وقال ٱبن عباس: «لا تدركه الأبصار» في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة لإخبار الله بها في قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }. وقاله السُّدِّي. وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة وسيأتي بيانه في «يونس». وقيل: «لا تدركه الأبصار» لا تحيط به وهو يحيط بها، عن ٱبن عباس أيضاً. وقيل: المعنى لا تدركه أبصار القلوب، أي لا تدركه العقول فتتوهمه إذلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]. وقيل: المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصراً وإدراكاً يراه به كمحمد عليه السلام إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزةٌ عقلاً، إذ لو لم تكن جائزةً لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلاً، ومحالٌ أن يجهل نبيّ ما يجوز على الله وما لا يجوز، بل لم يسأل إلا جائزاً غير مستحيل. وٱختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربّه، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال: كنت متكئاً عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة ثلاثٌ من تكلّم بواحدة منهنّ فقد أعظم على الله الْفِرْية. قلت: ما هنّ؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية. قال: وكنت متكئاً فجلست فقلت: يا أمّ المؤمنين، أنْظِريني ولا تُعْجِلِيني، ألم يَقُلِ الله عز وجل:وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } [التكوير: 32].وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } ؟ [النجم: 13] فقالت: أنا أوّل هذه الأمة من سأل عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظم خلقِه ما بين السماء والأرض " فقالت: أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول:لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } ؟ [الأنعام: 103] أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول:وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ـ إلى قوله ـ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } ؟[الشورى: 51] قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الْفِرْيَةَ، والله تعالى يقول:يَـۤأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة: 67] قالت: ومن زَعم أنه يُخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الْفِرْية، والله تعالى يقول:

السابقالتالي
2 3