الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { لا تدركه الأبصار } أي: لا تحيط به، ولا تناله بحقيقته، وعن ابن عباس: لا تدركه في الدنيا، وهو يُرى في الآخرة، ومذهب الأشعرية: أن رؤية الله في الدنيا جائزة عقلاً، لأن موسى عليه السلام سألها، ولا يسأل موسى ما هو محال، وأحالته المعتزلة مُطلقًا، وتمسكوا بالآية، ولا دليل فيها لأنه ليس الإدراك مطلق الرؤية، ولا النفي في الآية عامًا في الأوقات، فلعله مخصوص ببعض الحالات، ولا في الأشخاص فإنه في قوة قولنا: لا كل بصر يدركه، مع أن النفي لا يوجب الامتناع. قاله البيضاوي. ثم قال تعالى: { وهو يُدرك الأبصارَ } أي: يحيط علمه بها إذ لا تخفى عليه خافية، { وهو اللطيف الخبير } فيدرك ما لا تدركه الأبصار، ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمَين السابقين على طريق اللفّ، أي: لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير، فيكون اللطيف مقابلاً للكثيف، لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها. قاله البيضاوي وأبو السعود. الإشارة: اعلم أن الحق جل جلاله قد تجلى لعباده في مظاهر الأكوان، لكنه لحكمته وقدرته، قد تجلى بين الضدين، بين الأنوار والأسرار، بين الحس والمعنى، بين مظهر الربوبية وقالب العبودية، فالأنوار ما ظهر من الأواني، والأسرار ما خَفِيَ من المعاني، فالحس ما يُدرك بحاسة البصر، والمعنى ما يُدرك بالبصيرة. فالحس رداء للمعنى، فمن فتح الله بصيرته استولى نورُ بصيرته على نور بصره، فأدرك المعاني خلف رقة الأواني، فلم تحجبه الأواني عن المعاني، بل تمتحق في حقه الأواني، ولا يرى حينئذٍ إلا المعاني. لذلك قال الحلاج، لما سئل عن المعرفة، قال: استهلاك الحس في المعنى. فإذا فَنِيَ العبد عن شهود حِسِّه بشهود معناه، غاب وجوده في وجود معبوده، فشاهد الحقَّ بالحق. فالعارفون لَمَّا فنوا عن أنفسهم، لا يقع بصرهم إلا على المعاني، فهم يشاهدون الحق عيانًا. ولذلك قال شاعرُهم:
مُذَ عَرَفت الإله لَم أرَ غَيرًا وكذَا الغَيرُ عِنَدنَا مَمنُوعُ   
وقال في الحِكَم: " ما حَجَبَكَ عن الحَقِّ وجُودُ مَوجُودٍ مَعَه إذ لا شَيءَ مَعَهَ، وَإنَّما حَجَبك تَوّهُّمُ مَوُجُودٍ مَعَهُ ". وقوله تعالى: { لا تُدركه الأبصارُ } أي: الأبصار الحادثة، وإنما تدركه الأبصار القديمة في مقام الفناء. وقال الورتجبي: لا تدركه الأبصار، إلا بأبصار مستفادة من أبصار جلاله، وكيف يدركه الحدثان؟ ووجود الكون عند ظهور سطوات عظمته عدم. هـ. أو لا تحيط به، إذ الإحاطة بكُنه الربوبية متعذرة. وعلى هذا حمل الآية في نوادر الأصول، قال: إدراك الهوية ممتنع، وإنما يقع التجلي بصفة من صفاته. وقال ابن عبد الملك في شرح مشارق الصغاني، ناقلاً عن المشايخ: إنما يتجلى الله لأهل الجنة، ويريهم ذاته تعالى، في حجاب صفاته، لأنهم لا يطيقون أن يروا ذاته بلا حجابٍ مرَتبةٍ من مراتب الصفات.

السابقالتالي
2 3