الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }

عطف على جملةولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } يونس 106 لقصد التعريض بإبطال عقيدة المشركين أن الأصنام شفعاء عند الله، فلما أبطَلت الآية السابقة أن تكون الأصنام نافعة أو ضارة، وكان إسناد النفع أو الضر أكثر ما يقع على معنى صدورهما من فاعلهما ابتداء، ولا يتبادر من ذلك الإسناد معنى الوساطة في تحصيلهما من فاعل، عقبت جملةولا تدْعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } يونس 106 بهذه الجملة للإعلام بأن إرادة الله النفع أو الضر لأحد لا يستطيع غيره أن يصرفه عنها أو يتعرض فيها إلا من جعل الله له ذلك بدعاء أو شفاعة. ووجه عطفها على الجملة السابقة لما بينهما من تغاير في المعنى بالتفصيل والزيادة، وبصيغتي العموم في قوله { فلا كاشف له إلا هو } وفي قوله { فلا رادَّ لفضله } الداخل فيهما أصنامهم وهي المقصودة، كما صُرح به في قوله تعالى في سورة الزمر 38أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن مُمسكات رحمته } وتوجيهُ الخطاب للنبيء لأنه أولى الناس بالخير ونفي الضر. فيعلم أن غيره أولى بهذا الحكم وهذا المقصود. والمس حقيقته وضع اليد على جسم لاختبار ملمسه، وقد يطلق على الإصابة مجازاً مرسلاً. وقد تقدم عند قوله تعالىإن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان } في آخر سورة الأعراف 201. والإرادة بالخير تقديرُه والقصدُ إليه. ولما كان الذي لا يعجزه شيء ولا يتردد علمه فإذا أراد شيئاً فعله، فإطلاق الإرادة هنا كناية عن الإصابة كما يدل عليه قوله بعده { يصيب به من يشاء من عباده }. وقد عبر بالمس في موضع الإرادة في نظيرها في سورة الأنعام 17وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } ولكن عبر هنا بالإرادة مبالغة في سلب المقدرة عمن يريد معارضة مراده تعالى كائناً من كان بحيث لا يستطيع التعرض لله في خيره ولو كان بمجرد إرادته قبل حصول فعله، فإن التعرض حينئذٍ أهون لأن الدفع أسهل من الرفع، وأما آية سورة الأنعام فسياقها في بيان قدرة الله تعالى لا في تنزيهه عن المعارض والمعاند. والفضل هو الخير، ولذلك فإيقاعه موقع الضمير للدلالة على أن الخير الواصل إلى الناس فضل من الله لا استحقاق لهم به لأنهم عبيد إليه يصيبهم بما يشاء. وتنكير ضُر وخير للنوعية الصالحة للقلة والكثرة. وكل من جملة فلا كاشف له إلا هو } وجملة { فلا رادَّ لفضله } جواب للشرط المذكور معها، وليس الجواب بمحذوف. وجملة { يصيب به من يشاء من عباده } واقعة موقع البيان لما قبلها والحوصلة له، فلذلك فصلت عنها.

السابقالتالي
2