الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } * { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً }

لما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبه على كمال القرآن فقال { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَـٰتِ رَبّى } قال ابن الأنباري سمي المداد مداداً لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مداد، والمراد بالبحر هنا الجنس. والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمته، وفرض أن جنس البحر مداداً لها لنفد البحر قبل نفود الكلمات، ولو جئنا بمثل البحر مداداً لنفد أيضاً، وقيل في بيان المعنى لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب { لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبّى } وقوله { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت قوله { قل لو كان }. وفيه زيادة مبالغة وتأكيد، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدّرة مدلول عليها بما قبلها أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجىء بمثله مدداً ولو جئنا بمثله مدداً، والمدد الزيادة، وقيل عنى سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحداً فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد، وقد عبّرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع، قال الأعشى
ووجه نقّي اللون صاف يزينه مع الجيد لبات لها ومعاصم   
فعبّر باللبات عن اللبة. قال الجبائي إن قوله { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبّى } يدل على أن كلماته قد تنفد في الجملة، وما ثبت عدمه امتنع قدمه. وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية، وقيل في الجواب إن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدّل على نفاد الشيء الآخر، ولا على عدم نفاده، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر، أما أنها متناهية، أو غير متناهية فلا دليل على ذلك في الآية. والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته، وهي غير متناهية، فالكلمات غير متناهية. وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد ولو جئنا بمثله مداداً وهي كذلك في مصحف أبيّ، وقرأ الباقون { مدداً } وقرأ حمزة والكسائي قبل أن ينفد بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلك مسلك التواضع، فقال { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي إن حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية، ومن كان هكذا فهو لا يدّعي الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه فقال { يُوحَىٰ إِلَىَّ } وكفى بهذا الوصف فارقاً بينه وبين سائر أنواع البشر، ثم بيّن أن الذي أوحى إليه هو قوله { أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } لا شريك له في ألوهيته، وفي هذا إرشاد إلى التوحيد، ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الرجاء توقع وصول الخير في المستقبل، والمعنى من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً } وهو ما دلّ الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } من خلقه سواء كان صالحاً، أو طالحاً، حيواناً أو جماداً، قال الماوردي قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية إن المعنى لا يرائي بعمله أحداً.

السابقالتالي
2 3 4