الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ }

هذا وصف فريق آخر من الذين يقابلون الأمر بالتقوى والإنذار بالساعة مقابلة غير المطمئن بصدق دعوة الإسلام ولا المُعرض عنها إعراضاً تاماً ولكنهم يضعون أنفسهم في معرض الموازنة بين دينهم القديم ودين الإسلام. فهم يقبلون دعوة الإسلام ويدخلون في عداد متبعيه ويرقبون ما ينتابهم بعد الدخول في الإسلام فإن أصابهم الخيَر عقب ذلك عَلموا أن دينهم القديم ليس بحق وأنّ آلهتهم لا تقدر على شيء لأنها لو قدرت لانتقمت منهم على نبذ عبادتها وظنوا أن الإسلام حق، وإن أصابهم شرّ من شرور الدنيا العارضة في الحياة المسببة عن أسباب عادية سخطوا على الإسلام وانخلعوا عنه. وتوهموا أن آلهتهم أصابتهم بسوء غضباً من مفارقتهم عبادتها كما حكى الله عن عَاد إذ قالوا لرسولهمإن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } هود 54.فالعبادة في قوله تعالى { من يعبد الله على حرف } مراد بها عبادة الله وحده بدليل قوله تعالىيدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } الحج 12.والظاهر أن هذه الآية نزلت بالمدينة، ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس في قوله { ومن الناس من يعبد الله على حرف } قال كان الرجل يقدم المدينة فإن وَلدت امرأته غلاماً ونُتجت خيله قال هذا دينٌ صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دينُ سُوءٍ.وفي رواية الحسن أنها نزلت في المنافقين يعني المنافقين من الذين كانوا مشركين مثل عبد الله بن أبي بن سلول، وهذا بعيد لأنّ أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله { فإن أصابه خير اطمأن به }. وممن يصلح مثالاً لهذا الفريق العرنيُّون الذين أسلموا وهاجروا فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يلحقوا براعي إبل الصدقة خارج المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فلمّا صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذّود وفَروا، فألحق بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الطلبَ في أثرهم حتى لحقوا بهم فأمر بهم فقتلوا.وفي حديث «الموطأ» " أن أعرابياً أسلم وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصابه وعكٌ بالمدينة، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقيله بَيعته فأبى أن يقيله، فخرج من المدينة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -«المدينة كالكير تنفي خبَثها وينصَع طيبها» " فجعله خبثاً لأنه لم يكن مؤمناً ثابتاً. وذكر الفخر عن مقاتل أن نفراً من أسد وغَطفان قالوا نخاف أن لا ينصر الله محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا فنزل فيهم قوله تعالىمن كان يظن أن لن ينصره الله } الحج 15 الآيات.وعن الضحاك أن الآية نزلت في المؤلفة قلوبهم، منهم عيينة بن حِصن والأقرع بن حَابِس والعبّاس بن مِرداس قالوا ندخل في دين محمد فإن أصبْنا خيراً عرفنا أنه حق، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل.

السابقالتالي
2 3