الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }

بعد أن تكلم الحق عن الذين تخلفوا عن الغزو، وعن الذين اعتذروا بأعذار كاذبة، وعن الذين أرجأ الله فيهم الحكم، أراد أن يبين سبحانه أن تخلفهم ليس له أي أهمية لأن الله سبحانه وتعالى عوَّض الإيمان وعوّض الإسلام بخير منهم، فإياكم أن تظنوا أنهم بامتناعهم عن الغزو سوف يُتعبون الإسلام، لا لأن الحق سبحانه ينصر دينه دائماً. فيقول الله سبحانه: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } يقول العلماء: كيف يشتري الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وهو الذي خلق الأنفس وهو الذي وهب المال؟ وقالوا: ولكن هبة الله لهم لا يرجع فيها، بدليل أن المال مال الله، وحين أعطاه لإنسان نتيجة عمله أوضح له: إنه مالك بحيث إذا احتاجه أخ لك في الدين، فأنا أقترضه منك، ولم يقل: " أسترده ". فسبحانه القائل:مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 245]. لقد احترم الحق الهبة للإنسان، واحترم عرقه وسعيه، وكأنه سبحانه حينما وهب البشر الحياة، ووهبهم الأنفس أعلن أنها ملكهم حقّاً، ولكنه أعطاها لهم، وحين يريد أخذها منكم فلا يقول: إنه يستردها بل هو يشتريها منكم بثمن ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: " إن سلعة الله غالية، إن سلعة الله غالية، إن سلعة الله هي الجنة ". أي: اجعلوا ثمنها غالياً. { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ }. وكلمة { ٱشْتَرَىٰ } تدل على أن هناك صفقة، عملية شراء وبيع. وإذا كان هذا ملكاً لله، فالله هو المشتري، والله هو البائع، فلابد أن لهذا الأمر رمزية، وهذه الرمزية يلحظها الإنسان في الولي على اليتيم أو السفيه، فقد يصح أن يكون عندي شيء وأنا ولي على يتيم، فأشتري هذا الشيء بصفتي، ثم أبيعه بصفتي الأخرى، فالشخص الواحد يكون هو الشاري وهو البائع، فكأن الله يضرب لنا بهذا المثل: " إنكم بدون منهج الله سفهاء، فدعوا الله يبيع ودعوا الله يشتري ". وما الثمن؟ يأتي التحديد من الحق: { بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } هذا هو الثمن الذي لا يفنى، ولا يبلى، ونعيمك فيها على قدر إمكانيات الله التي لا نهاية لها، أما نعيمك في حياتك فهو على قدر إمكانياتك أنت في أسباب الله، وهكذا يكون الثمن غالياً. " وحينما جاء الأنصار في بيعة العقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عبدالله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال: " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ". قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ ماذا قال رسول الله؟ أقال لهم ستفتحون قصور بُصْرى والشام وتصيرون ملوكاً، وينفتح لكم المشرق والمغرب؟ لم يقل صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذا، بل قال: " الجنة " لأن كل شيء في الدنيا تافه بالنسبة لهذا الثمن، قالوا: " ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل " وبمجرد عقد الصفقة العهدية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار، كان من الممكن أن يموت واحد أو اثنان أو ثلاثة قبل أن يبلغ الإسلام حظه وذروته، وقد يقال: فلان مات ولم يأخذ شيئاً من ماديات الحياة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6