الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ }

قوله تعالى: { إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } على ما تقدّم من الإعراب. { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ }. قراءة الكسائيّ وعليّ وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد «هل تستطيع» بالتاء «ربَّك» بالنصب. وأدغم الكسائيّ اللام من «هل» في التاء. وقرأ الباقون بالياء، «رَبُّك» بالرفع، وهذه القراءة أشكل من الأولى فقال السدي: المعنى هل يطيعك ربك إن سألته { أَن يُنَزِّلَ } فيستطيع بمعنى يطيع كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكذلك استطاع بمعنى أطاع. وقيل المعنى: هل يقدر ربك، وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى. قلت: وهذا فيه نظر لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال:مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ } [الصف: 14]. وقال عليه السلام: " لكل نبيّ حواري وحواري الزبير " ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم فكيف يخفى ذلك على من باطنهم وٱختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟ إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، كما قال بعض جهال الأعراب للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ٱجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط، وكما قال من قال من قوم موسى:ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف: 138] على ما يأتي بيانه في «الأعراف» إن شاء الله تعالى. وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم:رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة: 260] على ما تقدّم، وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة، لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } كما قال إبراهيم: { وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }. قلت: وهذا تأويل حسن، وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين على ما يأتي بيانه. وقد أدخل ٱبن العربيّ المستطيع في أسماء الله تعالى، وقال: لم يرد به كتاب ولا سنة ٱسما وقد ورد فعلا، وذكر قول الحواريين: { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ }.

السابقالتالي
2