الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ }

استئناف ابتدائي بعدما مضى من وصف رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإجمال أصلها وأمره بإنذارهم وتسجيل التبليغ. قصد من هذا الاستئناف التلويح إلى عاقبة أمر هذا الدين المرجوة المستقبلة لتكون قصة هذا الدين وصاحبه مستوفاة المبدأ والعاقبة على وِزان ما ذكر قبلها من قصص الرسل السابقين من قوله تعالىولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء } الأنبياء 48 إلى هنا.وفي أمر الله تعالى نبيه - عليه الصلاة والسلام - بالالتجاء إليه والاستعانة به بعدما قال لهفإن تولوا فقل آذنتكم على سواء } الأنبياء 109 رمز إلى أنهم متولُّون لا محالة وأن الله سيحكم فيهم بجزاء جرمهم لأن الحكم بالحق لا يغادرهم، وإن الله في إعانته لأن الله إذا لقن عباده دعاء فقد ضمن لهم إجابته كقوله تعالىربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } البقرة 286 ونحو ذلك، وقد صدق الله وعده واستجاب لعبده فحكم في هؤلاء المعاندين بالحق يوم بدر.والمعنى قل ذلك بمسمع منهم إظهاراً لتحديه إياهم بأنه فوّض أمره إلى ربه ليحكم فيهم بالحق الذي هو خضد شوكتهم وإبطال دينهم، لأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.الباء في قوله تعالى { بالحق } للملابسة. وحُذف المتعلّق الثاني لفِعل { احكم } لتنبيههم إلى أن النبي على الحق فإنه ما سأل الحكم بالحق إلا لأنه يريده، أي احكم لنا أو فيهم أو بيننا.وقرأ الجمهور { قل } بصيغة الأمر. وقرأ حفص { قال } بصيغة الماضي مثل قوله تعالىقل ربي يعلم القول } الأنبياء 4 في أول هذه السورة. ولم يكتب في المصحف الكوفي بإثبات الألف. على أنه حكاية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - و { ربّ } منادى مضاف حذفت منه ياء المتكلم المضاف هو إليها وبقيت الكسرة دليلاً على الياء.وقرأ الجمهور ــــ بكسر الباء ــــ من { ربّ }. وقرأه أبو جعفر بضم الباء وهو وجه عربيّ في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم كأنهم جعلوه بمنزلة الترخيم وهو جائز إذا أُمِن اللبس.وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله تعالى { وربّنا } لتضمنها تعظيماً لشأن المسلمين بالاعتزاز بأن الله ربُّهم.وضمير المتكلم المشارك للنبي ومن معه من المسلمين. وفيه تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا من مربوبية الله في شيء حَسْبَ إعراضهم عن عبادته إلى عبادة الأصنام كقوله تعالىذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } محمد 11.والرحمان عطف بيان من { ربُّنا } لأن المراد به هنا الاسم لا الوصف تورُّكاً على المشركين، لأنهم أنكروا اسم الرحمانوإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } الفرقان 60.وتعريف { المستعان } لإفادة القصر، أي لا أستعين بغيره على ما تصفون، إذ لا ينصرنا غير ربنا وهو ناظر إلى قوله تعالىوإياك نستعين } الفاتحة 5.وفي قوله تعالى { على ما تصفون } مضاف محذوف هو مجرور على، أي على إبطال ما تصفون بإظهار بطلانكم للناس حتى يؤمنوا ولا يتبعوكم، أو على إبطال ما يترتب عليه من أذاهم له وللمؤمنين وتأليب العرب عليه.ومعنى { ما تصفون } وما تَصدر به أقوالكم من الأذى لنا. فالوصف هنا هو الأقوال الدالة عن الأوصاف، وقد تقدم في سورة يوسف. وهم وصفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفات ذم كقولهم مجنون وساحر، ووصفوا القرآن بأنه شعر وأساطير الأولين، وشهروا ذلك في دهمائهم لتأليب الناس عليه.