الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

قوله تعالى: { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ }: المشهورُ رَفْعُه على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو بديعُ. وقُرىء بالجرِّ على أنه بدلٌ من الضميرِ في " له " وفيه الخلافُ المشهورُ. وقُرىء بالنصبِ على المَدْحِ، وبديعُ السماواتِ من بابِ الصفةِ المشبهة أضيفَتْ إلى منصوبِها الذي كانَ فاعلاً في الأصلِ، والأصل: بديعٌ سماواتُه، أي بَدُعَتْ لمجيئِها على شكلٍ فائقٍ حسنٍ غريبٍ، ثم شُبِّهَتْ هذه الصفةُ باسمِ الفاعلِ فَنَصَبَتْ ما كانَ فاعلاً ثم أُضِيفَتْ إليه تخفيفاً، وهكذا كلُّ ما جاء من نظائرِه، فالإِضافةُ لا بدَّ وأن تكونَ من نصب لئلاَّ يلزم إضافة الصفةِ إلى فاعلِها وهو لا يجوزُ، كما لا يجوزُ في اسمِ الفاعلِ الذي هو الأصلُ. وقال الزمخشري: " وبديعُ السماواتِ " من باب إضافةِ الصفةِ المشبهةِ إلى فاعلِها ". وردَّ عليه الشيخُ بما تقدَّم، ثم أجابَ عنه بأنه يُحتمل أَنْ يريدَ إلى فاعلِها في الأصلِ قبل أن يُشَبَّه. وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً: وهو أن يكونَ " بديع " بمعنى مُبْدِع، كما أنَّ سميعاً في قولِ عمرو بمعنى مُسْمِعِ نحو:
692 ـ أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ   يُؤَرِّقُني وأصحابي هُجُوعِ
إلا أنه قال: " وفيه نظرٌ ". وهذا الوجهُ لم يذكر ابنُ عطية غيرَه، وكأن النظرَ الي ذكر الزمخشري - والله أعلم - هو أنَّ فَعيلاً بمعنى مُفْعِل غيرُ مَقيسٍ، وبيتُ عمروٍ مُتَأَوَّلٌ، وعلى هذا القولِ يكونُ بديعُ السماواتِ من بابِ إضافةِ اسمِ الفاعلِ لمنصوبِه تقديراً. والمُبْدِعُ: المخترِعُ المُنْشِىءُ، والبديع: الشيء الغريبُ الفائقُ غيرَه حُسْناً.

قوله: { وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً } العاملُ في " إذا " محذوفٌ يَدُلُّ عليه الجوابُ من قولِه: " فإنما يقول " ، والتقديرُ: إذا قضى أمراً يكونُ، فيكونُ هو الناصبُ له. و " قضى " له معانٍ كثيرةٌ، قال الأزهري: " قضى " على وجوهٍ مَرْجِعُها إلى انقطاعِ الشيء وتمامِه قال أبو ذؤيب:
693 - وعليهما مَسْرودتان قَضَاهُما   داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
وقال الشماخ:
694 - قَضَيْتَ أموراً ثم غادَرْتَ بعدَها   بوائِقَ في أَكْمامِها لم تُفَتَّقِ
فيكونُ بمعنى خَلَق نحو:فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [فصلت: 12]، وبمعنى أَعْلَمَ:وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الإسراء: 4]، وبمعنى أَمَر:وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإِسراء: 23]، وبمعنى وفَّى:فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ } [القصص: 29]، وبمعنى ألزم: قضى القاضي بكذا، وبمعنى أراد:وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً } [البقرة: 117] [وبمعنى] أَنْهى، ويجيءُ بمعنى قَدَّر وأَمْضَى، تقول: قَضَى يقضي قَضاءً قال:
695 ـ سَأَغْسِلُ عني العارَ بالسيفِ جالِباً   عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالِبا
قوله: { فَيَكُونُ } الجمهورُ على رفعه، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً أي خَبَراً لمبتدأ محذوفٍ أي: فهو يكونُ، ويُعزْى لسيبويه، وبه قال الزجاج في أحدِ قولَيْه.

السابقالتالي
2 3