الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

فيه سؤالٌ: وهُو أنَّهُ كيف طلبَ المغفِرَة وهم كُفَّارٌ، واللَّهُ لا يغْفِرُ الشِّرْكَ؟ والجوابُ من وُجُوه:

الأول: أنَّهُ تعالى لمَّا قال لعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -:ءَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [المائدة: 116]، عَلِمَ أنَّ قوماً من النَّصَارى حَكوا هذا الكلام عَنْهُ والحَاكِي هذا الكُفر لا يكُون كَافِراً، بل مُذْنِباً بكذبِهِ في هذه الحكايَةِ، وغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ، فلهذا طلبَ المَغْفِرَة.

والثاني: أنَّهُ يجُوزُ من الله - تعالى - أنْ يدخل الكُفَّارَ الجنَّة، ويدخل الزُّهَّاد النَّار؛ لأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ، ولا اعْتِرَاض لأحدٍ عليه، فكان غَرَضُ عيسى - عليه الصلاة والسلام - بهذا الكلامِ تَفْويض الأمُور كُلّها إلى الله - تعالى -، وترك الاعْتِرَاض بالكُلِّيَّةِ، ولذَلِك ختم الكلام بقوله { فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي: القادرُ على ما تُريدُ، الحكيم فيما تفعل لا اعتراض لأحد عليْكَ، وما أحسن ما قِيلَ: فإن أتَيْتُ ذَنْباً عظِيماً فأنْتَ للعَفْوِ أهْلٌ، فإن غَفَرْتَ، ففضلٌ، وإن جَزَيْتَ فعَدْلٌ.

الثالث: معناهُ: " إن تُعذِّبْهُم " بإقامَتِهِم على كُفْرِهِمْ، و { إن تَغْفِرْ لَهُم } بعد الإيمان، وهذا مستقيم على قَوْلِ السديِّ [رحمه الله]: إنَّ هذا السُّؤالَ عند رفعِهِ إلى السَّمَاءِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ؛ لأن الإيمان لا يَنْفَعُ في القِيَامةِ.

الرابع: قيل هذا في فِرْقَتَيْنِ منهم، معناه: إن تُعذِّب مَنْ كفرَ مِنْهُم، وإن تغفر لِمَنْ آمَنَ منهم.

قال القُرْطُبِي -[رحمه الله تعالى]- في الجوابِ عن هذا السُّؤال، بأنَّه قال ذَلِكَ على وَجْهِ الاسْتِعْطَافِ لَهُمْ والرَّأفَة، كعطف السَّيِّد لِعَبْدِه، ولهذا لم يَقُلْ: فإنْ عَصَوْكَ.

وقيل: قالهُ على وجْهِ التَّسليم لأمْرِه، والاسْتِجَارة من عَذَابه، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ.

وأمَّا قول من قال: إنَّ عيسى - عليه السَّلام - لا يَعْلَمُ أنَّ الكَافِرَ لا يُغْفَرُ له، فقولُ من يَتَجَرَّأ على كتابِ الله - تبارك وتعالى-؛ لأن الأخْبَارَ من الله - تبارك وتعالى - لا تُنْسَخُ.

وقيل: كان عند عيسى - عليه الصلاة والسلام - أنَّهم أحْدَثُوا معَاصِي وعَمِلُوا بَعْدَهُ بما لم يأمُرْهُم به، إلاَّ أنَّهُم على عَمُودِ دينِهِ، فقال: { وإن تَغْفِرْ لَهُمْ } ما أحْدَثُوا بَعْدِي من المَعَاصِي.

قوله: { فإنك أنت العزيزُ الحكيم }: تقدَّم نظيره [البقرة 32]، وهي في قراءةِ الناس ومصاحفهم " العزيزُ الحكيم " ، وفي مصحف ابن مسعود - رضي الله عنه وقرأ بها جماعة: " الغفورُ الرحيم " ، وقد عبث بعض من لا يفهم كلام العرب بهذه الآية، وقال: " إنما كان المناسب ما في مصحف ابن مسعود " وخَفِي عليه أنَّ المعنى متعلق بالشرطين جميعاً، ويوضِّح هذا ما قاله أبو بكر بن الأنباري، فإنه نَقَلَ هذه القراءة عن بعض الطاعنين ثم قال: ومتى نُقِل إلى ما قاله هذا الطاعن ضَعُفَ معناه، فإنه ينفرد " الغفور الرحيم " بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلُّقٌ، وهو على ما أنزل الله وعلى ما أجمع على قراءته المسلمون معروف بالشرطين كليهما: أولهما وآخرهما، إذ تلخيصه: إنْ تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم، وإن تغفرْ لهم فأنت العزيزُ الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران، فكأنَّ " العزيز الحكيم " أليقُ بهذا المكان لعمومه وأنه يجمع الشرطين، ولم يصلُحْ " الغفور الرحيم " أنْ يحتمل من العموم ما احتمله " العزيز الحكيم ".

السابقالتالي
2